حقبة صراع جديد: التّحقيق في الأبحاث الجامعيّة الفرنسيّة!
من كان يفكّر في السنوات السابقة في أن تُخضع الهيئات البحثية في الجامعات الفرنسية للتحقيق والتفتيش، بحثاً عمّن يحاول تعرية الاستعمار الفرنسي القديم أو مساندة مظلومية مواطن فرنسي لا ذنب له سوى أنه ينتمي إلى الديانة الإسلامية؟
من تخيّل لثانية أن تصل شهيّة الإدارة الفرنسية الحالية، مدعومة برغبات يمينية متطرفة، إلى إحكام قبضتها على مراكز البحث والباحثين الفرنسيين، من دون النظر في عواقب وتداعيات قرار التحقيق في ولاء أساتذة كبار في الجامعات وتوجهاتهم؟
في عصر الديمقراطية المزعومة، لم تكتفِ إدارة الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون بقانون "الانفصالية الإسلامية" الذي أشاع الانقسام بين الفرنسيين، بدءاً من البرلمان، وصولاً إلى النخب الثقافية الفكرية والقواعد الشعبية، حتى ظهرت مؤشرات جديدة على نية مبيّتة لاستكمال حصار حرية الفكر والمعتقد والبحث، وحتى الاختلاف والاعتراض.
"اليسار الإسلاموي" هو المصطلح الذي فرضه اليمين الفرنسي المتطرف منذ أشهر، ويجهد مفكّرو إدارة ماكرون والتجمّع الوطني بقيادة مارين لوبن لتحويله إلى قانون ربما، يخضعون بواسطته كل من يدافع عن المسلمين الفرنسيين كمواطنين وشركاء لهم ما للآخرين من حقوق وواجبات، وكل من يتعاطف ويتعاون معهم.
الخطوة المثيرة للقلق التي أقدمت عليها وزيرة التعليم العالي والبحث العلمي في فرنسا، فريدريك فيدال، بمطالبة المركز الوطني الفرنسي للبحوث العلمية بإجراء تحقيق بشأن الباحثين الأكاديميين، بزعم أنهم ينظرون إلى كل شيء من منظور السعي لإثارة التصدّع والانقسام، عبر التركيز على قضايا الاستعمار والعرق، هزّت المجتمع الأكاديمي والبحثي، وجرّت اعتراضات سياسية وأكاديمية واسعة، ولا سيما أن الوزيرة استبقت طلبها بتحذير من مغبة انتشار ما أسمته "اليسار الإسلاموي" في المؤسسات الأكاديمية الفرنسية.
"اليسار الإسلاموي" ينخر المجتمع الفرنسي بأكمله، كما تزعم الوزيرة التي تعبّر عن جهود إدارة ماكرون للاستحواذ على مفاهيم اليمين المتطرف واستراتيجياته، بغية جرّ ناخبيه إلى صفوفها في معركة الرئاسة المقبلة، فهذا المصطلح غالباً ما يستخدم في فرنسا من قبل سياسيي أقصى اليمين وبعض سياسي اليمين المحافظ ضد خصومهم في اليسار، في المعركة الضروس على تصدّر المشهد السياسي وتعبئة القواعد الانتخابية قبل أقل من سنتين على انتخابات الرئاسة.
وكما تجري العادة في فرنسا، لا يمكن لما كشفت عنه وزيرة التعليم إلا أن يتحول إلى قضية رأي عام، ثم إلى كرة نار متدحرجة، ما دام أنه يطال روح وعقل الجامعة الفرنسية التي تعتبر قلعة فكرية وعلمية يصعب المسّ بها، كما خُيِّل إلى الوزيرة الماكرونية. رد فعل زعيم "فرنسا غير الخاضعة" جان لوك ميلونشون، وهو في رأس المعارضة لإدارة ماكرون، جاء حاداً واستثنائياً، إذ اعتبر توجهات فريديرك فيدال "ظلامية جديدة تريد محاكم تفتيش أكثر ذكاءً".
المركز الوطني الفرنسي للبحوث العلمية الذي طلبت منه وزيرة التعليم التحقيق في الأبحاث الجامعية انتفض على الخطوة، ولم يتأخر في الرد عليها، مستنكراً استخدام مصطلح "اليسار الإسلاموي" ذي "الملامح غير المحددة"، والذي يعدّ محور العديد من المواقف العامة والعرائض والالتماسات التي غالباً ما تكون متحمسة.
وشدد المركز على أن الجدل الحالي حول "اليسارية الإسلاموية والاستغلال السياسي الناتج منه هو رمز للاستغلال المؤسف للعِلم". أما ما طلبته الوزيرة فهو مقلق، في رأي المركز الوطني الفرنسي للبحوث، ويكمن خطره في "محاولات نزع الشرعية من مختلف مجالات البحث، مثل الدراسات المتعلقة بحقبة ما بعد الاستعمار أو الدارسات المتقاطعة أو الأعمال حول مصطلح العرق، أو أي مجال آخر من مجالات المعرفة."
من جانبه، دان مؤتمر رؤساء الجامعات الفرنسية استخدام تسمية "اليسار الإسلاموي" المعرّفة بشكل مبهم، قائلاً إنه يجب تركها لليمين المتطرّف الذي أشاعها. في هذه الأجواء المشحونة، تدخل فرنسا المأزومة على مستويات كثيرة ساحة صراع جديد أُدخلت فيه الجامعة الوطنية عنوة، وبأسلوب استفزازي قد يجرّ أشكالاً أخرى من التوتر والضغط.