هل يغيّر فيروس كورونا تصورنا عن المجتمع والزمن؟
انقضى عام 2020 ونحن نعيش صراعاً مع حياة جديدة فُرضت علينا، لم يتمكّن أحد حتى الساعة من إطلاق النار على فيروس كورونا الذي تسبب بوفاة أكثر من مليون شخص حول العالم. هل وصل الوقت إلى طريق مسدود؟
لطالما عملت الإنتاجات الفنية على تصوير حالات غريبة وغير قريبة إلى الواقع لاستمالة مسامع الجمهور، ذلك أن المشاهد أو القارئ يبحث دوماً عن المختلف، عن الحكاية التي تخرج عن النص المعتاد.
بعض الكتب والمقالات والقصص صورّت حياة مختلفة على كوكب الأرض، كذلك القصص الحقيقة التي لا تكون أقرب إلى المعتاد والمعروف، يميل الإنسان إلى مشاهدتها بشغف، وعدم تصديقها طبعاً. الأفلام والإنتاجات الفنية، وغالباً الغربية منها، صوّرت مشاهد لكائنات فضائية تجتاح الأرض، وتغيّر طبيعة الحياة عليها، وطرحت أفكاراً لإيجاد لغة للتواصل مع سكان العالم الخارجي، كفيلم (Arrival) الذي يتعامل مع الوافدين من الفضاء بطريقة مختلفة عن محاربتهم.
الأدب كذلك حاول معالجة الحياة المعلّبة الجاهزة التي نعيشها وكيف أنها قد تختلف فعلاً فيما بعد، لذلك لجأ إلى الحديث عن الكواكب والنجوم والمخاطر التي تهددنا من الكواكب الأخرى، الكاتب البريطاني فرانك كلوس تحدث في كتابه "العدم" عن رحلة علمية يتضح فيها الكثير مما يثير التفكير والتأمل عن مخاطر ينبغي أن تشغلنا، وينصح الكاتب بإنشاء مستعمرات في الفضاء يأوي إليها الإنسان لتجنب الكوارث، فهل هذا ما سنفعله للوقاية من فيروس كورونا؟
قلق عالمي بعد الأنباء عن انتشار كورونا في ووهان الصينية
في نهاية كانون الأول/ ديسمبر عام 2019 أعلنت الصين عن ظهور أولى حالات فيروس كورونا في مدينة ووهان الصينية. في 20 كانون الثاني/يناير الرئيس الصيني "شي جين بينغ" أعلن أن فيروس كورونا مرض معدٍ ينتقل بين البشر.
وفي 21 من الشهر نفسه بلغ عدد الوفيات في الصين 6 أشخاص.. في 23 يناير/كانون الثاني، تحدّثت بكين عن إصابة 614 شخصاً بالوباء، توفي إثرها 17 شخصاً، وفرضت الحجر الصحي في ووهان.
مع ارتفاع عدد الضحايا، بدأت تتضح خطورة المرض، وانتاب العالم القلق والخوف من توسّع انتشار الوباء، قلق لم يحد من انتشار الوباء في غالبية مناطق العالم، وهكذا بدأت حكاية الفيروس الأحجية.
كورونا ضرب الاقتصاد.. وقطاعات معينة شهدت قفزة إيجابية
أضر فيروس كورونا بالاقتصاد العالمي، نظراً لطبيعة الحجر الذي فرضت هبوطاً في البورصات العالمية وفرضت كذلك تأرجحاً في أوضاع الشركات في مجمل المجالات تقريباً، أسعار النفط انخفضت بطبيعة الحال، وفرض الفيروس على الاقتصاد واقعاً جديداً بانتظار طاقة فرج ما تحدث على حين غرة، كما جاء الفيروس.
طبعاً لا يمكن التعميم بهذا الصدد لأن الفيروس كان له تداعيات إيجابية على بعض الشركات، عدد المشتركين في خدمة "ديزني +" التي اُطلقت في تشرين الثاني/نوفمبر ارتفع إلى 55 مليون مشترك على سبيل المثال، وهو رقم استغرقت نتفليكس 7 أعوام لتحقيقه.
آثار اجتماعية لن نتخلص منها لسنوات طويلة
على الصعيد المادي المحسوس صعّد فيروس كورونا من خسارات الأرض أضعاف ما قد تسببه الحروب في بعض البلدان، قرأنا، وبعضنا لمس كيف تُخلّف الحروب آثاراً ديموغرافية واجتماعية تحتاج سنوات للتغيير عملياً، لكن حرباً ضروساً قد تغير بأشهر قليلة ثقافة بلد بأكمله. اجتماعياً تغيب لغة الأرقام، التغييرات الاجتماعية وتبدّل الأعراف والقيم لها طرق قياس أخرى.
عامٌ مرّ على ظهور فيروس كورونا، إجراءات الإغلاق اختلفت قليلاً بين البلاد لكن التباعد الاجتماعي وارتداء الكمامة وعدم المصافحة باليد، وعدم ارتياد الأماكن العامة والحفلات والمناسبات الدينية، كان سمة مشتركة بين جميع الدول. كلمة التباعد الاجتماعي نفسها ستؤدي بالضرورة إلى خلل اجتماعي ما.
التباعد في زمن كورونا كان يعني عدم الظهور أو الخروج إلا في الحالات الضرورية، وتجنّب الاختلاط بالبشر، هذا الواجب الذي لم يتأقلم العالم سريعاً معه، فرض ترتبات جديدة على المناسبات الاجتماعية لم يتسنى التحضير لها حتى.
تغيرت مراسم حفلات الزفاف التي عرفت عادةً باجتماع عدد كبير من الأشخاص للاحتفال في مكان واحد، وكذلك مراسم العزاء التي باتت تقتصر على وجود عدد قليل جداً من أفراد العائلة. تحدثنا عن الأفراح والأتراح أولاً لأنها أكثر المظاهر التي يحتاج الإنسان فيها عادة إلى اجتماع الناس من حوله.
الفيروس عدّل وجهات العالم، وسّع الفجوة بين المساحات، لعنة هذا الفيروس أن من يصاب به يصبح "منبوذاً"، لا يقترب من أحد، وممنوعٌ على أحد أن يقترب منه.
فعّل كورونا نظام العمل عن بعد، ونظام التعليم عن بعد، والمصافحة عن بعد، حتى ظن أحد رواد مواقع التواصل الاجتماعي أن "فيروس كورونا جاء ليقضي على العلاقات بين البشر".
هل تعودنا على التباعد، وهل سنحافظ عل ذلك بعد انتهاء الجائحة؟
صحيفة "بوليتيكو" الأميركية قامت باستطلاع رأي أكثر من 30 من المفكرين بهذا الخصوص، بعض التغييرات التي يتوقع هؤلاء الخبراء رؤيتها في الأشهر أو السنوات القادمة قد تبدو غير مألوفة أو مقلقة، هل ستبقى الدول مغلقة؟ هل يصبح اللمس من المحرمات؟ ماذا سيحدث للمطاعم؟
أستاذة اللسانيات في جامعة جورجتاون ديبورا تانين، قالت عن التغييرات التي قد تحصل "نحن نعلم الآن أن لمس الأشياء والتواجد مع أشخاص آخرين، واستنشاق الهواء في مكان مغلق يمكن أن يكون محفوفًا بالمخاطر. مدى سرعة انحسار هذا الوعي سيكون مختلفاً بالنسبة لأشخاص مختلفين، لكنه لا يمكن أن يتلاشى تماماً لأي شخص عاش هذا العام. قد يصبح من الطبيعي الابتعاد عن المصافحة أو لمس وجوهنا - وقد نجد جميعاً أننا لا نستطيع التوقف عن غسل أيدينا".
تانين توقعت أن يتم استبدال راحة التواجد في وجود الآخرين براحة أكبر مع الغياب، خاصة مع أولئك الذين لا نعرفهم بشكل وثيق. بدلاً من السؤال "هل هناك سبب للقيام بذلك عبر الإنترنت؟" سوف نسأل: "هل هناك أي سبب وجيه للقيام بذلك شخصياً؟".
بيتر كولمان أستاذ علم النفس بجامعة كولومبيا قال من جهته إن فيروس كورونا يقدّم عدواً هائلاً لن يميز بين اللونين الأحمر والأزرق، وقد يزودنا بطاقة تشبه الاندماج لمساعدتنا على إعادة التعيين وإعادة التجميع. وتحدّث عن الدراسات التي تقول إن أنماط العلاقات القوية والدائمة غالباً ما تصبح أكثر عرضة للتغيير بعد نوع من الصدمات الكبرى التي تزعزع استقرارها.
وقال إن "دراسة لـ 850 صراعاً دائماً بين الدول وقعت بين عامي 1816 و 1992، وجدت أن أكثر من 75% منها انتهى في غضون 10 سنوات من صدمة زعزعة الاستقرار الرئيسية. يمكن للصدمات المجتمعية أن تكسر طرقاُ مختلفة، وتجعل الأمور أفضل أو أسوأ".
الدراسات التي ما تزال تعد يومياً لكشف الحياة ما بعد فيروس كورونا لم تنتهِ حتى اللحظة، وهذا يعود لطبيعة الانتشار وعدم فهم ماهية هذا الفيروس جيداً، وإلى متى قد يواصل انتشاره، لكن المؤكّد حتى اللحظة أن كثيرون تغاضوا عن المصافحة لوقت طويل جداً، ولم يعد الحضور من أوائل قوانين المناسبات الاجتماعية، كما أن غسل اليدين جيداً قد يتطور، إحدى الأشخاص على مواقع التواصل الاجتماعي كتب بعد إصابته بفيروس كورونا "صرت شخصاً مخبولاً نوعاً ما، فأنا أغسل يداي بعد أن أنظر إلى أي مخلوق!".
كيف غيّر فيروس كورونا تصورنا عن الزمن؟
فيليكس رينجل أستاذ في الأنثروبولوجيا في جامعة دورهام تحدّث كيف أثر الإغلاق العام على تجاربنا مع الوقت.
ينظر رينجل إلى فيروس كورونا على أنه أزمة تحرمنا من "وكالتنا الزمنية"، ومن القدرة على هيكلة تجربة الزمن وإدارتها والتلاعب بها. على سبيل المثال، "قد يكون الكثير منا قد فقد بالفعل مسار الوقت، ويتساءل عن أي يوم من أيام الأسبوع هو. يبدو الأمر كما لو أن الوقت قد وصل إلى طريق مسدود".
الميزة الأكثر أهمية في تجاربنا مع الزمن أثناء الأزمة هي ما وصفته عالمة الأنثروبولوجيا جين جوير بـ "الحضور المفروض"، أي الشعور بالتعثر في الحاضر، بالإضافة إلى عدم القدرة على التخطيط للمستقبل. وقالت "لا نعرف حاليًا متى يمكننا رؤية أحبائنا مرة أخرى، أو متى يمكننا الذهاب في عطلة. والأكثر خطورة، لا يعرف الكثير منا متى سنعود إلى العمل، أو في الواقع ما إذا كانت لدينا وظيفة نعود إليها. في خضم هذه الأزمة، من الصعب تخيل مستقبل يبدو مختلفاً عن الحاضر".
الأستاذ فيليكس رينجل اعتبر أنه سيكون من المثير للاهتمام معرفة ما إذا كانت أجزاء من هذه الحالة الطبيعية الجديدة، مثل المكاتب المنزلية وقلة التنقل، ستبقى. ولكن حتى لو كانت مجرد وقفة لا إرادية من الأوقات الرأسمالية، يجب أن نعيد النظر في النظم الزمنية للنمو والانحدار والتسارع للنيوليبرالية التي شكلت الحياة على الأرض".
وقال إن تجاربنا الشخصية في زمن كورونا أعطتنا تدريباً على الفكر الزمني والمرونة، معتبراً أن "الإنسانية سوف تتغلب على هذه الأزمة، ولكن هناك آخرون في المستقبل. ربما بعد ذلك، سيكون من المريح معرفة أنه يمكننا، ويجب علينا، خداع الوقت والتخطيط للمستقبل، حتى عندما نشعر بأننا عالقون في الحاضر".