نموذج سافر في التوجيه الإسرائيلي لوسائل الإعلام
تعمل "لجنة التدقيق في التقارير الإعلامية الأميركية حول الشرق الأوسط" على توجيه مباشر للسياسات التحريرية لكبرى وسائل الإعلام العالمية والعربية.
لا يلحظ الكثيرون من عامة الجمهور المتابع لوسائل الإعلام تلك الفروقات التحريرية التي تؤثر في الرأي العام وتصنع ثقافته، وغالباً ما ينحصر تعليق البعض في استخدام مصطلح "قتيل" أو "شهيد" و"إسرائيل" أو "فلسطين المحتلة"، لكن الصناعة الإعلامية تعتمد على ما هو أعمق من استخدام المصطلحات "الفاقعة"، فالسياسات التحريرية عادة ما تتدخل في السياقات التاريخية للأخبار، فتقفز فوق أحداث مهمة، وتستبعد تفاصيل مؤثرة، أو تفسر أخرى لصالح توجيهها، بما يتناسب ومصلحة الجهات المموّلة للوسيلة الإعلامية.
لطالما ردّد سياسيون في خطّ المقاومة اتهامات للإعلام المعادي بالخضوع للضغوط الإسرائيلية والأميركية، غير أن هذه الاتهامات باتت أشبه بـنظرية "المؤامرة"، مع غياب تقديم الأدلة التي تدعم هذه المزاعم. من نماذج الضغط الإسرائيلي على الإعلام العالمي والعربي هي المنظمات العابرة للحدود. على سبيل المثال لا الحصر، تعمل "لجنة التدقيق في التقارير الإعلامية الأميركية حول الشرق الأوسط"، والمعروفة اختصاراً باسم "كاميرا"، منذ العام 1982 على توجيه مباشر للسياسات التحريرية لكبرى وسائل الإعلام العالمية، والعربية مؤخراً.
المنظّمة التي تعتمد 6 لغات في عملها، تتواصل بشكل مباشر مع وسائل الإعلام حين ترصد تقارير أو أخباراً أو مواد إعلامية غير متناسبة مع السردية الإسرائيلية للصراع. وفي حال عدم رضوخ الوسيلة الإعلامية لمطالب المنظمة، تمارس الأخيرة ضغوطاً مباشرة عبر حملات إعلامية لمقاطعة الوسيلة، وأخرى في الكواليس عبر السياسيين والدبلوماسيين والاقتصاديين.
ومن الأمثلة القليلة عن نشاطات المنظّمة الكثيرة ننقل ما يلي:
- بتاريخ 22/2/2020، ضغط فريق "كاميرا" على وكالة "رويترز" لـ"تصحيح" خبر نشرته في 16 شباط/فبراير 2020 على موقعها باللغتين العربية والإنجليزية. كان تقرير "رويترز" ينقل عن المدعية العامة للمحكمة الجنائية الدولية، فاتو بنسودا، قولها إنها قد تحقق في مقتل "آلاف الفلسطينيين" على يد الجيش الإسرائيلي.
اعتبرت "كاميرا" أن تصريح بنسودا غير صحيح، وأنها لم تقدّر عدد الفلسطينيين الذين سقطوا بالآلاف، بل اكتفت فقط بالإشارة إلى التحقيق، علماً أن تقريراً مفصلاً صدر بعد شهر تقريباً عن المسؤولة الأممية نفسها، حددت فيه عدد "200 فلسطيني" قُتلوا في الأراضي المحتلة. في النهاية، استبدلت "رويترز" روايتها الأولى، والتزمت برواية "كاميرا".
- بتاريخ 10 شباط/فبراير 2020، نشرت وكالة الأنباء الأميركية "أسوشيتد برس" تقريراً ذكرت فيها أن الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين هي "حزب سياسي يساري لديه جناح عسكري". وسرعان ما تدخّلت "كاميرا" لتعديل التقرير الذي أضاف الفقرة التالية: "أما الجبهة الشعبية، فتعتبرها إسرائيل والولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي منظمةً إرهابيةً، إذ نفذت هجمات بارزة إعلامياً على مدى عقود، بما في ذلك عمليات اختطاف طائرات، وكذلك اغتيال وزير إسرائيلي في العام 2001".
- بتاريخ 24/3/2020، استجاب فريق تحرير وكالة "أسوشييتد برس" (AP) لمراجعة فريق "كاميرا" الإسرائيلي، وصحّح خبراً بعنوان "دول الشرق الأوسط تواجه الوباء الجديد في الوقت الذي تتعرض لعواصف الحرب"، صدر عن موقع الوكالة بالإنجليزية، حيث تم التصحیح في 18 آذار/مارس 2020 (مرفق التقرير المعدل).
وتمحور الخبر حول استعدادات دول الشرق الأوسط لمواجهة فيروس كورونا. وجاء في الخبر المذكور أن "إسرائيل" تمنع "السلع الفائقة الأهمية" من الدخول إلى قطاع غزة في إطار سياسة الحصار الإسرائيلي عليه، بما في ذلك "اللوازم الطبية".
اعترضت المنظمة على تقرير الوكالة العالمية، فتراجعت الأخيرة، وعدلت التقرير، وحذفت الإشارة إلى منع دخول اللوازم الطبية إلى غزة، وركّزت على "سوء إدارة حماس في القطاع" كسبب لتراجع البنية التحتية للقطاع الطبي في غزة.
- بتاريخ 16 نيسان/أبريل 2020، نشرت قناة "بي بي سي" العربية على قناتها على يوتيوب فيديو حول انتشار وباء كورونا في قطاع غزة. وأشارت "بي بي سي" في تقديم التقرير إلى أن "القطاع الذي يعيش تحت وطأة الحصار الإسرائيلي منذ العام 2007، يُعدّ الأكثر كثافة سكانية في العالم".
على الفور، اتصل فريق "كاميرا" بالقسم العربي في القناة البريطانية ليؤكد أن حصار غزة "إسرائيلي - مصري مشترك"، و"لا يجوز الادعاء بأن قطاع غزة يعيش تحت وطأة الحصار الإسرائيلي" وحده، كما نفت "كاميرا" أن يكون القطاع أكثر البقع الجغرافية كثافة في العالم، مستنداً إلى تقرير لوكالة الاستخبارات المركزية الأميركية منذ العام 2007، يعتبر "ماكاو" و"موناكو" و"سنغافورة" و"هونغ كونغ" أكثر كثافة من غزة!
وبعد 11 يوماً، خضعت "بي بي سي" لمطالب "كاميرا"، وأعادت صياغة الخبر، ليصبح: "يُعد قطاع غزة واحداً من الأكثر كثافة سكانية في العالم".
عشرات الأمثلة الأخرى تظهر الضغوط الإسرائيلية على وسائل إعلام عربية وعالمية، نذكر منها أيضاً "دوتشيه فيليه" العربية، و"نيوزويك" الأميركية، و"صوت أميركا" (Voice of America)، و"وول ستريت جورنال"، و"إندنبندنت عربية"، و"cnn"، وغيرها من المؤسسات ذات الأسماء الرنانة، ودائماً ما يتّخذ الضغط شكل "تصحيح" المعلومات والمطالبة بـ"التوازن" و"الموضوعية".
في جعبة "كاميرا" الكثير من الحملات "الناجحة" منذ 40 عاماً تقريباً، ولكنها رغم ذلك ليست الأداة الأهم في نشر الدعاية الإسرائيلية، هي أحد أوجهها الفعالة، والحديث يطول.