بعد الكوفية.. الكمامة في فلسطين سلاحاً
ليست جرثومات الهواء وحدها تهديداً قاتلاً للفلسطينيين، إنما من يشاركونهم هواء البلاد؛ أولئك الذين لم يحتلّوا الأرض فحسب، بل ينازعون أهلها على حقّ الحياة والوجود. من هنا خرجت فكرة كوفيات الوجوه، لـيحمي الفلسطيني نفسه بهويته.
الكوفية "الشماغ" (كلمة أصلها سومري "إيش / ماخ"، وتعني غطاء الرأس) هي قطعة قماش بيضاء مطرزة بالأسود، تُلف حول الرقبة، فتحمي من البرد القارس، ويُغطى بها الرأس، فتخفف من حدة أشعة الشمس، وهي تستخدم أيضاً كلثام يحمي المتظاهر من كشف هُويته، لكنه يحافظ عليها في الوقت ذاته.
للكوفية دلالات معنوية ورمزية كبيرة لدى الفلسطينيين والعرب، فقد اقترنت بالنضال والكفاح والمقاومة. ومع اندلاع ثورة العام 1936، التي قام بها الفلاحون والعمّال الفلسطنيون تصدياً للقمع البريطاني والإسرائيلي آنذاك، أخفى الفدائيون الفلسطينيون وجوههم بالكوفيات عند تنفيذهم عملياتهم، فسعت القوات البريطانية المحتلة لفلسطين إلى إلقاء القبض على كل من يرتدي كوفية.
ورداً على هذه الإجراءات، أصدرت قيادة الثورة أمراً طلبت فيه من جميع الفلسطينيين ارتداء الكوفية، لتصعيب مهمة البريطانيين في القبض على الفدائيين. ومع مرور النكبات على فلسطين المحتلة، واستمرار ارتداء الكوفيات في مراحل مختلفة، أعلن الشعب الفلسطيني ومؤسساته التربوية في الوطن والشتات 16 تشرين الثاني/نوفمبر من كل عام يوم الكوفية الفلسطيني، وذلك بناءً على قرار اتخذته وزارة التربية والتعليم في العام 2015 باعتبار هذا اليوم يوماً وطنياً.
الكمامة الفلسطينية
من الكوفية، استوحى الفلسطينييون كمامات تغطي الفم والأنف، وتخفي ملامح الوجه، حتى لا يتعرف إليهم العدو الإسرائيلي. شكل الكمامة في فلسطين مختلف، فالشعب هناك يحاول أن يوجّه رسائل مستمرة وواضحة إلى العدو الصهيوني، باللباس والكلام، وحتى الاهتمامات الرمزية اليومية.
في العام 2015، قام الفنان محمد مسلّم، الذي درس الفنون الجميلة في غزة، وأكمل الدكتوراه والماجستير عن التصوير الفلسطيني منذ بداياته وحتى القرن العشرين، ويعيش حالياً في كندا، بعدما أمضى غالبية حياته في غزة، بتصميم فني معاصر يتمثل بإنتاج كمامة طبية من الكوفية الفلسطينية التقليدية.
يقول مسلّم للميادين نت إنَّ الكمامة جاءت "لحمايتنا كفلسطينيين من الفيروسات الخارجية، من الاحتلال، والحصار، والمؤامرات العالمية". ولأن الكوفية هي أحد أهم رموز القضية الفلسطينية، تمّ استخدامها كغطاء للرأس منذ قرون، وهي من الألبسة المشتركة النادرة بين الرجال والنساء في الثقافة الشعبية الفلسطينية.
مسلّم تحدّث عن فنانة اسمها أمليت ديفيت، قدمت إلى غزة ودعته إلى المشاركة في ورشة لإنتاج بعض التصاميم من وحي الحياة تحت الحصار في قطاع غزة. وفي تلك الورشة، تبادرت إلى ذهنه فكرة الكمامة الفلسطينية، لأن "الفلسطيني عشان يتمسك بحقه لازم يحمي حاله ويكمم نفسه بهويته".
وفي ظل أزمة انتشار فيروس كورونا المستجد في فلسطين المحتلة، التي بلغت الإصابات فيها حتى اليوم 2,185 إصابة، عاد تصميم الفنان محمد مسلّم إلى الواجهة، حيث قام بتنفيذ مئات من الكمامات من الكوفية الفلسطينية في مدينة غزة، وعند الحرفي أبو علاء غبن، ليتم إرسالها وتسويقها في أوروبا.
يخبرنا محمد أن كمامته الأصلية المطرزة بالخيوط السوداء، تعني الكثير للفلسطينين، وهي بمثابة بطاقة شخصية لهم، لأنها تحمي من وباء الاحتلال المقيت التي أنتجه الاستبداد والظلم، ومن الأوبئة التي تنتجها الطبيعة.
وعن كيفية إيصال هذه الكمامات إلى أوروبا في ظل الحصار المفروض على قطاع غزة، قال مسلّم إن الأعمال الفلسطينية تخرج عبر الحدود عبر أشخاص يعملون في مؤسسات أجنبية أو عبر دبلوماسيين، وأشار إلى موقع "ديس أرمينغ ديزاين" الذي ينتج مشاريع في الضفة وقطاع غزة، ويتم عبره تصدير هذه المنتوجات إلى العالم أجمع عبر طلب المنتوجات أونلاين وإيصالها إلى أنحاء أوروبا والعالم..
الفنان الفلسطيني محمد مسلّم وجّه عبر الميادين نت رسالة إلى وسائل الإعلام كافة، متمنياً تسليط الضوء على قطاع غزة، وعلى الإنتاج الإبداعي الفني فيه، ويقول: "لدينا شباب وشابات ينبضون بالحياة والأمل رغم الظروف والحصار"، مؤكّداً أن هناك الكثير من أحرار العالم يدعمون الثقافة والإنتاج والهوية الفلسطينية. وقال إن الألم والإشكاليات الحقيقية التي يعيشها الشعب الفلسطيني والحصار "الخانق الخانق"، لا يمنع، رغم قبحه، إنتاج أعمال فنية في غاية الجمال والروعة.