تاريخ من العداء: أبطال "أجاكس" يقتلون سليماني
اغتيال قائد قوة القدس قاسم سليماني جاء ليكشف عن تاريخ طويل من العداء بين الجمهوريتين، بدأته أميركا عام 1953 ولن تنهيه باغتيال سليماني عام 2020.
تصريح الرئيس الأميركي دونالد ترامب الأحد الفائت، لا ينبغي أن يكون مفاجئاً. نعم، "إيران لم تمثل شيئاً سوى المشاكل لسنوات عديدة"، وهي تعد بالمزيد من "المشاكل" إن لم يُعترف بحقها في أن تكون سيّدة على أراضيها.
وهي وكما يقول الكاتب المصري محمد صادق إسماعيل "التحدي الأبرز لنموذج الأمن الأحادي الأميركي وحضوراً في منطقة الشرق الأوسط" (من الشاه إلى نجاد، محمد صادق اسماعيل، ص. 252)، لذلك يصبح من نافل القول أن حقبات من الأزمات بين البلدين -منذ منتصف القرن الماضي- لم تنته مفاعيلها اليوم.
اغتيال قائد قوة القدس قاسم سليماني جاء كاشفاً عن تاريخ طويل من العداء بين الجمهوريتين، بدأته أميركا عام 1953 ولن تنهيه باغتيال سليماني عام 2020. من محمد مصدّق إلى الرهائن الـ 52، التاريخ المتوتر كان بارزاً في خطابات مسؤولي البلدين في الأيام التي تلت عملية الاغتيال.
في البدء كانت "أجاكس"
"لقد ارتكبت جريمة كبيرة، سيسّجل اسمك في تاريخ العالم إلى جانب مرتكبي جريمة انقلاب 28 مرداد" بهذه العبارة خاطب رئيس مجلس الشورى الإيراني علي لاريجاني الرئيس الأميركي الأحد الفائت، بعد استشهاد سليماني. هكذا تطفو الأزمات السابقة عند كل منعطف جديد، ويعاد التذكير بأحداث عاصفة لا تزال حيّة في ذاكرة مسؤولي البلدين.
لكن ماذا في 28 مرداد ولماذا يذكّر لاريجاني بالانقلاب؟
مطلع عام 1950 نالت الجبهة الوطنية في إيران بقيادة الدكتور محمد مصدق تأييداً واسعاً من مختلف الطبقات والفئات الشعبية، الأمر الذي أدى إلى انتخاب المجلس النيابي مصدق رئيساً للوزراء بغالبية ساحقة (97 صوتاً مؤيداً مقابل 12 معارضاً) وإلزام الشاه محمد رضا بهلوي بالتصديق على رئاسة الرجل الذي أجبر على اعتزال الحياة السياسية عام 1941 إثر معارضته انتخاب رضا بهلوي شاهاً لإيران.
وفور تسلّم مصدق الحكم، أقرّت حكومته إصلاحات اجتماعية قضت بتخصيص رواتب للعاطلين عن العمل، وإلزام أصحاب المصانع بدفع مساعدات للعمال المرضى والمصابين، واستقطاع المال من ميزانية بلاط الشاه لصالح وزارة الصحة وتطهير الجيش من العناصر الموالية للشاه (حوالي 130 من كبار المسؤولين).
إذاً استطاع مصدق "أن يضع القوات المسلحة الإيرانية تحت سيطرة الوزارة التي كان يرأسها في يوليو 1952، ومثلّ ذلك هزيمة فعلية لسلطة الشاه على الجيش الذي يعد القوة الرادعة لمعارضيه" وبذلك عجز الشاه عن الإطاحة بمصدق ومحاصرة الجبهة الوطنية التي أخذت تهدد النفوذ الغربي بخطابها المرتكز على القومية واسترجاع الحقوق المسلوبة من الشركات البريطانية والأميركية" (تاريخ إيران السياسي بين ثورتين 1906-1979، آمال السبكي، ص. 171).
لكن الخطوة الأبرز والأجرأ التي قام بها مصدق، هي إصداره مرسوماً بتأميم النفط الإيراني في أيار 1951، وإلغاء امتياز شركة النفط البريطانية الإيرانية الذي كان يفترض أن ينتهي عقدها عام 1993 ومصادرته أصول أموالها.
كانت خطوة مصدق كفيلة باستنفار دوائر المخابرات الأميركية والبريطانية، وتشغيل عداد النهاية للرئيس الديمقراطي الذي لا يرضي الطموحات الاستعمارية للإمبراطوريتين.
لعب التأييد الشعبي لقرار مصدق بتأميم النفط، دوراً هاماً في ثنيّ بريطانيا عن الاطاحة بمصدق من خلال الاستثمار في الرأي العام والضغط الشعبي، ولذلك لجأت لتدبير انقلاب عسكري بمساعدة الضباط المصروفين، إلا أن مصدّق تنبه للترتيبات البريطانية، فسارع لإغلاق السفارة البريطانية عام 1952، وطرد جميع المسؤولين والدبلوماسيين البريطانيين من بلاده.
أمام تضاؤل الفرص البريطانية بالنجاح، هرعت الأخيرة إلى الولايات المتحدة الأميركية وبالتحديد إلى وكالة المخابرات المركزية لإنقاذ الموقف والتخلص من مصدق بأقرب فرصة.
تولى كيرميت روزفلت قيادة الانقلاب على مصدق. كان دوره حاسماً في هذه العملية التي عرفت باسم "أجاكس" البطل البارز في أسطورة طروادة اليونانية، والتي كانت تقوم على شراء ولاءات الصحفيين وعلماء الدين والعسكريين والسياسيين، وتنظيم العصابات من أجل إحداث الفوضى والبلبلة وتعزيز الشكوك حول جدوى سياسات مصدق، وتقليب الرأي العام الإيراني عليه، ثم تقديم أحد الجنرالات المطيع لإملاءات الأميركيين والبريطانيين كمنقذ من الاضطراب الحاصل، وهو الجنرال فضل الله زاهدي.
في 28 مرداد 19 آب/أغسطس، قام زاهدي وضباط الجيش الموالون لأميركا وبريطانيا باحتلال الوزارات واعتقال من فيها من الوزراء، وبقوّة مؤلفة من 37 دبابة جرى السيطرة على العاصمة وتدمير منزل الرئيس مصدق واعتقاله.
ظلّ مصدق ثابتاً على موقفه في المحكمة التي حكمت بخيانته. هناك، وبتاريخ 21 أيلول/سبتمبر 1953، صرخ مصدق مُديناً كل أيادي الاستعمار: "إن جريمتي الوحيدة هي أني أممّت البترول الإيراني ونزعت من إيران شبكة الاستعمار والنفوذ الاقتصادي والسياسي لأكبر امبراطورية على وجه الأرض".
سيتأخر الكشف الرسمي عن ضلوع الولايات المتحدة الأميركية في الانقلاب حتى العام 2009، حين أعلن الرئيس الأميركي السابق بارك أوباما في خطابه الشهير من القاهرة، أنه "وفي خضم الحرب الباردة، لعبت الولايات المتحدة دوراً في الإطاحة بحكومة إيرانية منتخبة ديمقراطياً". اعتراف لا يمحو آثار المرارة التي لقيها زعيمهم بموته منفياً ومعزولاً في بلاده.
طلاب مصدق يعتلون سور السفارة
شارع فرانكلين روزفلت (جد كيرميت روزفلت مدبّر عملية "أجاكس") حيث تقع السفارة الأميركية في طهران صار اسمه شارع آية الله محمود طالقاني عام 1972. هذه مفارقة ربما لم تكن خافية عن الطلاب الذين اعتلوا سور السفارة في الـ 10 صباحاً 4 تشرين الثاني/نوفمبر، إذ أنهم كانوا قد قرأوا كتاب "الانقلاب المضاد" لروزفلت، فاستبدت بهم "فكرة احتمال قيام الأميركيين بانقلاب مضاد آخر، إذ كانت تسيطر على عقولهم ذكريات عام 1953". (مدافع آيات الله، محمد حسنين هيكل، ص. 36).
في ذلك الحين، شكلت السفارة الأميركية في طهران العصب الرئيسي للتحكم بالشرق الأوسط تحت تأثير المنافسة المحتدمة بين الاتحاد السوفياتي وأميركا، فتحولت السفارة الأميركية إلى مخفر للشرطة، ولم تعد مهمة موظفي السفارة الحفاظ على علاقات دبلوماسية طيبة مع حكومة الشاه، بل تولوا مهمة تقديم الاستشارات للبلاط والحفاظ على النظام القائم وتأمين كل وسائل الدعم الكافي لاستمراره كخادم لسياسات واشنطن في الخليج. هذا ما اقتضى من الأخيرة تعيين سفراء على اتصال بوكالة المخابرات المركزية (سي آي ايه) في طهران بعد الإطاحة بمصدق عام 1953.
تولى المسؤول عن أنشطة الطلاب الجامعيين في المجلس الثوري الإيراني موسوي خوئيني، تنظيم خطة معّدة لاقتحام السفارة الأميركية للحصول على المزيد من الوثائق التي تكشف عن الإجراءات الجديدة لحكومة الشاه والمطالب الأميركية منه، واشترك حوالي 50 طالباً في التخطيط لعملية الهجوم، فيما شارك حوالي 450 طالباً في الهجوم الذي كان منظماً وسهلاً إلى حد كبير، بحيث لم يصب خلاله أي من المهاجمين بأذى.
ولحسن حظ الثوار الإيرانيين فقد كان لاعترافات رئيس المخابرات الإيرانية السابق (السافاك) نعمت الله ناصري، دوراً بارزاً في الكشف عن أحد العملاء المزروعين داخل السفارة الأميركية لصالح الشاه ويدعى "حافظ"، وهو العميل الذي زوّد الثوار بخريطة لمجمع السفارة وأعلمهم بمواقع الحراسة، ونقاط الضعف.
إذاً في ظهيرة الـ 4 من تشرين الثاني/نوفمبر 1979، تسلّق الطلاب سور السفارة من دون أن يجرؤ الحراس على إطلاق النار عليهم. وعمل الطلاب بداية على تخليص الوثائق السرية من التلف، وإلقاء القبض على أكثر من 60 عاملاً في السفارة، قبل أن يطلق سراح بعضهم ليصل عدد الرهائن إلى 52.
فجّر اقتحام السفارة الأميركية الأزمة بين طهران وواشنطن. نداءات "الموت لأميركا" تتردد في شوارع إيران، فيما الرئيس الأميركي جيرمي كارتر مستاء أشد الاستياء من هذه الحادثة غير المنظورة والتي لم يكن للسفارة الأميركية علم بها رغم التحضيرات التي استمرت لأسابيع.
"مخلب النسر" يتحطم في طبس
بدأ التخطيط لعملية تحرير الرهائن في اليوم التالي للهجوم، في قسم خطط العمليات الخاصة في وزارة الدفاع الأميركية. وكانت الخطة المسماة بـ"مخلب النسر" تقضي بإنزال قوات أميركية خاصة في صحراء طبس، تمهيداً لانتقال هذه القوات برياً إلى السفارة في طهران وتحرير الرهائن بعد قطع الكهرباء عن كامل العاصمة، ثم نقلهم بواسطة طائرة النقل العملاقة "سي 141" إلى الولايات المتحدة الأميركية.
لكن ما لم تتوقعه إدارة جيمي كارتر حدث بالفعل! ففي المرحلة الأولى من العملية، وبتاريخ 24 نيسان/أبريل، حدثت بعض الأعطال الميكانيكية في طائرات النقل نتيجة هبوب عاصفة رملية في منطقة العملية، ما استدعى تأجيلها.
وأثناء الانسحاب حدث اصطدمت مروحية من طراز "ار اش 53"، وطائرة شحن ضخمة من نوع "اي سي 130" محمّلة بقرابة 1000 غالون من الوقود، ما أدى لاشتعال النيران في كلتي الطائرتين ومقتل 8 من جنود الخدمات.
أصدر الإمام الخميني إثر عملية "مخلب النسر" نداءً إلى الشعب الإيراني، قال فيه "كنت قد قلت مراراً أن كارتر مستعد لارتكاب كل جريمة ولإحراق الدنيا كلها من أجل الوصول لرئاسة الجمهورية، وها هي الشواهد قد ظهرت وتظهر واحدة تلو الأخرى".
ربما، يكون اغتيال ترامب للفريق قاسم سليماني شاهداً إضافياً على ما يرتكبه الرؤساء الأميركيين من أجل تقلّد ولاية رئاسية أخرى.