دلالات نتائج الانتخابات الأميركية المحلية على السباق الرئاسي
إصرار قادة الحزب الديموقراطي على المضي بإجراءات التحقيق ضد ترامب يعود إلى الرغبة في التوصل لبعض التفاصيل التي يمكن البناء عليها لإقصائه، وهي مغامرة غير محسوبة النتائج لعدم توفر أدلة تدعم تلك الرغبة بعد مضي نحو ثلاث سنوات على مساعي الإطاحة بالرئيس ترامب.
شهد مطلع الشهر الجاري سلسلة أحداث في الأميركيتين، الشمالية والجنوبية، أشّرت إلى تراجع التيارات اليمينية الحاكمة مقابل فوز منافسيها في القارتين.
الأرجنتين شهدت تحولاً ملحوظاً بفوز مرشح اليسار (تيار بيرون) ألبيرتو فرنانديز ونائبته الرئيسة السابقة كريستينا فيرنانديز دي كوشنر، خصوم واشنطن، شارك فيها أكثر من 26 مليون ناخب، فاز مرشحوه بالأغلبية الساحقة في مجلس الشيوخ الذي ستترأسه نائبة الرئيس دي كوشنر.
كما فاز الرئيس البوليفي وحزبه "الحركة الاشتراكية" المناهض بشدة لهيمنة واشنطن بولاية رئاسية ثانية، (24 أكتوبر/تشرين الأول)، ولجأت الولايات المتحدة إلى إسقاطه عبر انقلاب لم يكتب له النجاح، تبعه هبوط طائرته المروحية اضطرارياً في أعالي جبال الأنديز وسط تكهنات بمسؤولية أعوان واشنطن في الجيش بمحاولة اغتياله.
وفي الأوروغواي، جنوب الحدود البرازيلية، فاز مرشح "الجبهة العريضة" للرئاسة، دانيال مارتينيز، ذو برنامج الاشتراكية الشعبية، بنسبة مريحة.
لعل العنصر الأهم كان إفراج المحكمة الفيدرالية العليا في البرازيل عن الرئيس السابق المحتجز لولا دي سيلفا، أحد أركان دول "البريكس". عقب مغادرته السجن ألقى كلمة أمام حشد لمؤيديه دعاهم فيها للتظاهر ضد الفاشية الحاكمة، وسيقوم بجولة في مختلف أنحاء البرازيل لاستعادة زمام المبادرة التي حُرم منها لنحو عام ونصف خلف القضبان بتهم فساد ملفقة.
مطلع الشهر الجاري أيضاً أجريت انتخابات محلية في بعض الولايات الأميركية لعدد محدود من المناصب، منها حكام الولايات ومجالس الكونغرس المحلية، أسفرت نتائجها عن خسارة كبيرة للحزب الجمهوري ومؤيديه في ولاية فرجينيا، ما حفز التكهنات الانتخابية للعام المقبل بصعود مرشحي الحزب الديموقراطي في مراكز حيوية. كما حقق الحزب الديموقراطي فوزاً بمجلسي الولاية، الهيئة التشريعية، لأول مرة منذ عقد التسعينيات من القرن المنصرم.
من العلامات الفارقة في الانتخابات المحلية لولاية فرجينيا فوز مرشحة مسلمة من أصول هندية بمقعد في مجلس نواب الولاية، ما حمل يومية "نيويورك تايمز" على وصفها بأنها "علامة فارقة تعكس زيادة انخراط المرأة المسلمة في السياسة". الفائزة بالمنصب غزالة هاشمي هاجرت إلى الولايات المتحدة برفقة والديها وهي بعمر 4 سنوات، وحصلت على شهادة الدكتوراه في اللغة الإنكليزية.
الولاية الحيوية الأخرى هي كنتاكي معقل رئيس مجلس الشيوخ الجمهوري ميتش ماكونيل، إذ فاز المرشح الديموقراطي (آندي بيشير) بمنصب حاكم الولاية، وكان والده آخر حاكم ديموقراطي شغل منصبه على رأس الولاية لفترتين متتاليتين. يشار إلى أن الرئيس ترامب فاز بأصوات الولاية بفارق 30 نقطة مئوية في جولة الانتخابات الرئاسية لعام 2016.
اللافت في نتائج هذه الولاية، التي تميل بغالبيتها إلى الحزب الجمهوري، برنامج الفائز بيشير الذي ركز على سياسات الرئيس ترامب بتقليص حجم الخدمات الصحية ورواتب التقاعد للمسنين؛ بينما حافظ مجلسي كونغرس كنتاكي على أغلبية للحزب الجمهوري.
ولاية الميسيسيبي، أقصى الجنوب، حافظت على تأييدها لمرشحي الحزب الجمهوري، في ظل حرص الرئيس ترامب على زيارتها في الحملات الانتخابية لتأييد مرشحي حزبه.
وحقق الحزب الجمهوري تقدماً ملحوظاً بعد فوز مرشحيه لمناصب مجلسي ولاية نيو جيرسي، بيد أن أغلبية المقاعد لا تزال تصب في صالح خصومه الديموقراطيين. الفوز المحقق كان محدوداً في منطقة جغرافية جنوبي الولاية تميل بغالبيتها للتيارات المحافظة.
انتخابات مدينة سياتل بولاية واشنطن، أقصى الشمال الغربي، شهدت منافسة حادة بين رؤوس الأموال الضخمة التي ضختها شركة أمازون، وتقدر بعدة ملايين من الدولارات، لدعم مرشحها لمجلس البلدية ضد العضو "الاشتراكية" كشاما سوانات التي عارضت بشدة التسهيلات المقدمة للشركات الكبرى حلال توليها منصبها.
كما شهدت مدينة هيوستون بولاية تكساس انتكاسة أخرى للمرشح الديموقراطي لمنصب عمدة المدينة، بفارق بسيط بين المرشحين ما سيضطرهما إلى لانخراط مجدداً في إعادة جولة الانتخابات الشهر المقبل، وفق قوانين الولاية الناظمة للعملية الانتخابية.
عند السعي لاستقراء النتائج الأولية لتلك الانتخابات المحدودة من العسير البناء على استنتاجات تؤيد الحزب الديموقراطي بشكل خاص، لا سيما إذا أخذنا بعين الاعتبار تعدد المشارب والعوامل التي أدت إلى فوز مرشحيه، بعضها يعود للآلية الحزبية المنظمة وبعضها الآخر لطبيعة المرشح، كما شهدت ولاية كنتاكي.
المحصلة العامة لنتائج الانتخابات في هذه المرحلة المبكرة لا تدل على تحول كبير في المزاج العام من مسار التحقيقات الجارية في مجلس النواب لعزل الرئيس ترامب، على الرغم من توجيه بعض معاونيه السابقين تفسيرات تدعم التهم الموجهة إليه في ما عُرف بفضيحة "أوكرانيا غيت."
أحدث استطلاعات الرأي أيضاً لا تدعم فرضية عزله، إذ جاء في استطلاع أجرته شبكة فوكس نيوز أن 51% تؤيد مسار التحقيق لعزله، وهي أعلى نسبة سجلت في هذا الصدد، لكنها لا تؤشر إلى أغلبية ساحقة كما يرغب الحزب الديموقراطي.
وأشار استطلاع موازٍ أجرته جامعة مونماوث، بولاية نيوجيرسي، إلى فقدان ثقة الأغلبية المطلقة من المستطلعة آراؤهم، 73%، في مسارات التحقيق؛ بينما أعرب نحو 60% من الديموقراطيين عن رغبتهم بإزاحة ترامب بصرف النظر عن طبيعة الحقائق والملابسات. في قراءة أخرى لتلك النتائج، نستطيع القول إن أغلبية الآراء تشير إلى مقارعة الرئيس وهزيمته في الانتخابات المقبلة.
تلك النتائج ينبغي أن تنعكس على إجراءات التحقيق الجارية في مجلس النواب، في ظل مناخ ديموقراطي سليم. بيد أن تشبث الحزب الديموقراطي بالتحقيق بغية العزل لا يمثل النبض العام من ناحية، ويضعه في مغامرة العزل وما يرافقها من انقسامات واصطفافات حادة داخل المجتمع بأكمله، عوضاً عن تحشيد الإمكانيات الانتخابية لهزيمة الرئيس ترامب في الانتخابات المقبلة.
إصرار قادة الحزب الديموقراطي المضي بإجراءات التحقيق يعود إلى الرغبة في التوصل لبعض التفاصيل التي يمكن البناء عليها لإقصائه، وهي مغامرة غير محسوبة النتائج بدقة لعدم توفر أدلة تدعم تلك الرغبة بعد مضي نحو ثلاث سنوات على مساعي الإطاحة بالرئيس ترامب. بل إن قراءة واقعية لنتائج استطلاعات جامعة مونماوث، أعلاه، تقود المرء للاستنتاج بأن الغالبية الشعبية لا تثق بتصرفات وخطط الحزب الديموقراطي في مجلس النواب.
أما المرشح "الأقوى" لدى الحزب الديموقراطي، نائب الرئيس السابق جو بايدن، فأضحى يعاني من صعوبات متعددة وهفوات في الأداء أسهمت في تراجع نسبة التأييد الشعبي له من ناحية، وتقلص حجم التبرعات المالية من مصادر مؤيدة للحزب بشكل عام.
الدخول المحتمل لعمدة نيويورك السابق، مايكل بلومبيرغ، إلى حلبة السباق الرئاسي يؤشر إلى تبلور قناعة شبه قاطعة داخل مراكز القرار في الحزب الديموقراطي بأن المرشح بايدن في طريقه ليصبح عبءاً عليه وينبغي إنقاذ ما يمكن إنقاذه بعيداً من تأييد المركز للمرشحيْن البارزين، بيرني ساندرز واليزابيث وارين.
في مواجهة تلك اللوحة في معسكر الحزب الديمقراطي، لا تزال قاعدة مؤيدي الرئيس ترامب تحافظ على تماسكها وتأييدها له، على الرغم من سيل الاتهامات والانتقادات الموجهة له. بل تميل قاعدة مؤيديه إلى "إهمال" الحملات المناوئة له وتبني سرديته أن ثمة "أنباء مفبركة."
عند الأخذ بتلك المعطيات بعين الاعتبار، يمكننا القول إن قادة ومراكز قرار الحزب الديموقراطي أقلعت عن المنافسة الانتخابية الصرفة نتيجة "ضعف" مرشحيها المفضلين، واعتمدت أسلوب التحقيق والمضي به إلى النهاية كاستراتيجية بديلة.
يبدو أن الحزب الديموقراطي غير عابئ بنتائج التحقيق الحقيقية، خاصة وأن مسار ثلاث سنوات متواصلة لم يكشف عن انتهاكات صارخة قام بها الرئيس تستدعي إقصاءه، بل يمضي في إهمال ما يمكن أن تنجزه أغلبيته العددية في مجلس النواب وتركيز جهودها على سن تشريعات تحظى بتأييد العامة وتدعم حظوظ مرشحيه، وهي الخطة "السرية" لكسب الانتخابات كما يدل المسار التاريخي للانتخابات الأميركية.
الانطباعات الراهنة حول توقعات المراقبين لنتائج الانتخابات المقبلة تدعم فوز الرئيس ترامب نظراً إلى تماسك قواعده الانتخابية، مقابل انقسامات متعددة داخل صفوف خصومه، خاصة إذا لم تبرز فضائح أو انتهاكات جديدة دامغة تطاله، فضلاً عن دروس التاريخ السابقة التي تشير إلى نجاح الرئيس بولاية ثانية في معظم الانتخابات الرئاسية الأميركية، باستثناء حالتي الرئيسين جيمي كارتر وجورج بوش الأب.