ضغوط قصوى ومقاومة فاعلة وإعادة تموضع.. المنطقة إلى أين؟
تتزايد لعبة كرة المضرب بين الولايات المتحدة وإيران في الخليج سرعةً بصورةٍ مطّردة خلال الأسابيع الفائتة. ضربة بضربة تتراكم معطيات التوازن الأمني والسياسي في المنطقة، ويشارك فيها اللاعبون الإقليميون من حلفاء واشنطن بصورةٍ متفاوتة وحذرة، فيما تشارك القوى الأوروبية بأسلوبٍ مختلفٍ يشي بتوزيع أدوارٍ، لا يوصلها بالرغم من تنوعه وحيلته إلى الهدف المنشود، وهو إخضاع الإرادة الإيرانية و"تغيير سلوكها" المبني على مشروعٍ معادٍ لإسرائيل وداعم للمقاومة منذ 40 سنة.
الخطوات الأميركية الأخيرة بإدراج كبار القادة الإيرانيين على لوائح العقوبات، وآخرهم وزير الخارجية محمد جواد ظريف، تبدو منسجمة مع عنوان الحملة التي يخوضها ترامب ضد طهران، وهي ضمن استراتيجية "الضغوط القصوى".
لكن معطيات جديدة تكشفت في الساعات الماضية صبّت في مصلحة إيران، وقد تؤدي إلى جولة لعب جزئية مناسبة لمصلحة طهران في الوقت الراهن، خصوصاً وأن الجميع يراهن على الوقت، بالإضافة إلى القدرة على الصمود والتحمل وتمرير هذا الوقت.
من هذه المعطيات الأخيرة، توتر مستجد لايزال مضبوطاً إعلامياً، ولا يظهر بحجمه الحقيقي، وهو متمثل بانزعاج سعودي من انسحاب الإمارات العربية المتحدة من التحالف الذي يخوض الحرب على اليمن، وتموضع أبو ظبي في خانة جديدة على رقعة المواجهة مع طهران، يضعها أقرب إلى الحياد منها إلى المحور المهاجم.
ويكتسب هذا التطور أهميته من موقع الإمارات وأهميتها بين دول الخليج من ناحية، وكنموذجٍ يقاس عليها غربياً لناحية تحسس المخاطر الأمنية أولاً والجيوسياسية ثانياً.
فتموضع الإمارات الجديد يؤشر بمعنى ما إلى قدرات إيران الدفاعية، وقدرتها على المواجهة إقليمياً، في حال اندلاع مواجهة بين إيران والغرب وحلفائه.
ويمكن تفسير هذه الخطوة الإماراتية والتعليق السعودي عليها بخوف الرياض من تركّز الضغوط والردود الإيرانية عليها فيما لو تدهورت التوترات الحالية إلى مواجهة، خصوصاً مع دفع واشنطن بحلفائها إلى واجهة المواجهة بدلاً من انخراطها هي في هذا النزاع المحموم.
إذن هي مخاطر تحتاج إلى حسابات فردية لكل قوةٍ على حدة. حيث بات الجميع يترجم الحسابات الكلية إلى حساباتٍ على قياس دولته وحدها، درءاً لإمكانية تحمل الغضب الإيراني المتصاعد، والمدفوع بإرادة شعبية شاملة في طهران متحفزة للدفاع عن البلاد وثورتها وخطها المقاوم.
وبالعودة إلى سياق العقوبات الأميركية على القيادات الإيرانية، واستهدافها ظريف تحديداً، فإنها خطوة تشير إلى استهدافٍ مركّز على الديبلوماسية الإيرانية التي يلمس الأميركيون في أدائها فاعليةً خطرة تنسب إليها ثمرة انسحاب الإمارات من التحالف الحربي ضد اليمن، بالإضافة إلى تموضع سلطنة عُمان في موقع أقرب إلى الموقف الإيراني والمنطق الذي تتبناه طهران في معالجة أمن الخليج.
رد ظريف على هذه العقوبات يضع الإصبع على الجرح الغربي هنا، حين قال في تغريدةٍ عبر "تويتر": "إنها فرضت عليَّ عقوبات لأني أمثل تهديداً لجدول أعمالها". وأن "العقوبات الأميركية لن تؤثر عليَّ ولا على عائلتي لأنه ليس لنا أملاك في الخارج"، مشيراً إلى "إن الإدارة الأميركية فرضت عليّ عقوبات لأنني المتحدث الأول باسم إيران حول العالم". كما أوصى في تغريدة له أخيرا نظيره الأميركي مايك بومبيو بقبول الطلبات العديدة الموجهة من الصحفيين الإيرانيين لإجراء مقابلات مع المسؤولين الأميركيين بدلاً من تقديمه المقترحات الجوفاء والطنانة.
وما يؤكد الإحساس الأميركي بخطورة الدبلوماسية في هذه المرحلة، رد الأميركيين على موقف ظريف هذا، عبر مسؤول أميركي قال لرويترز: إن "ظريف ساعد في تنفيذ "جدول أعمال متهور" "(للمرشد الإيراني السيد) علي خامنئي. وأن "واشنطن لا تعتبر ظريف نقطة الاتصال الرئيسية في محادثات نووية محتملة"، وهي "ترغب في التواصل مع شخص له دور كبير في صنع القرار في إيران"، بحسب تعبيره. وهذه النقطة الأخيرة تبدو مقدمة لمحاولة تحريض أميركية داخل النظام الإيراني.
أما بالنسبة للموقف الأوروبي، فهو مستمر بتبعيته للإرادة الأميركية، خصوصاً بعد وصول بوريس جونسون إلى رئاسة وزراء بريطانيا، واندفاعه في حملة الضغوط المجنونة على إيران.
ظريف نفسه أكد بعد اجتماع لمجلس الوزارء الإيراني إن الإجراءات التي اتخذتها أوروبا حتى الآن لا تتناسب أبداً مع تعهداتها، مشدداً على أن القناة المالية "انستكس" يجب "ألا تكون أداة لتنفيذ أوامر أميركا كما يجب أن يجري تفعيلها بالكامل وإدخال عائدات النفط الإيراني فيها".
لكن تراجع الإمارات يعطي مثالاً صارخاً على إمكانية لعب الوقت لمصلحة طهران، حيث يمكن للصمود الإيراني المستمر في الأشهر المقبلة أن يؤدي إلى تضعضع الجبهة الأوروبية، وبداية تفكير كل دولةٍ من دول الحلف الغربي بأمنها القومي، بعيداً عن جموح القادة الأميركيين والبريطانيين، بدفعٍ من الضغوط الداخلية التي تشهدها فرنسا وألمانيا من جهة، ووصول التوترات الخليجية إلى مرحلةٍ تشي بمخاطر جيوسياسة داهمة تهدد أمن روسيا المباشر، ودور الصين ومشروعها الضخم لحزام والطريق. حينها قد تتوازن كفتي الميزان، ويقلب تأثير الدومينو لصالح إيران ومن يقف إلى جانبها.
وقد بدأت هذه الملامح تلوح في الأفق مع المبادرة الروسية المتمثّلة بصدور وثيقة أمن الخليج الذي يضمن مشاركة الجميع فيه، وفيه حلول أمنية وسياسية واقتصادية تؤدي إلى استقرار أمن المنطقة وأنظمتها، وأخيراً تسجيل امتعاض الإدارة الأميركية عبر سفيرها في ألمانيا ريتشارد غرينل بعد استبعاد نظيره الألماني هيكو ماس مشاركة بلاده في مهمة بحرية مزمعة بقيادة الولايات المتحدة في مضيق هرمز القريب من إيران، وذلك بعدما قالت واشنطن إنها قدمت طلبا رسميا لبرلين.