نار تحت الرماد.. هل يشتعل الخلاف التركي اليوناني؟
ما هي أبرز ملفّات الخلاف بين أنقرة وأثينا؟ وهل من الممكن أن ينفجر تصعيداً عسكرياً بعد أن وصل إلى شفا الحرب ثلاث مرات في نصف القرن الماضي؟
بعد أشهر من الهدوء الحذر بين تركيا واليونان، عادت حرب التصريحات بين الدولتين. الرئيس التركي رجب طيب إردوغان قال، في تهديد مباشر، إنّ الطائرات الحربية والمسيّرات التركية المسلّحة ستضرب أثينا إذا لم تتوقف الأخيرة عن استفزازاتها، في إشارة إلى استمرار تسليح الجزر في بحر إيجه، والمناورات العسكرية التي أجرتها أثينا في جزيرتي رودس وليسبوس، الأمر الذي وصفته اليونان بغير المقبول. فما هي أبرز ملفّات الخلاف بين الجارتين والحليفتين للناتو؟ وهل ستُقرع طبول الحرب بعد أن كادت العلاقات تصل إلى شفا الحرب ثلاث مرات في نصف القرن الماضي؟
جزيرة قبرص.. صراع تاريخي
الخلاف بين تركيا واليونان ليس وليد اللحظة، بل هو منقسم بين صراعات قديمة عالقة، وأخرى حديثة ومترابطة فيما بينها، ولا يقتصر على ملف واحد، وتُعَدّ القضية القبرصية أحد أبرز جوانبه.
وقبرص جزيرة تفصل بين البلدين، وتُعَدّ ثالث أكبر جزيرة في البحر المتوسط، بعد جزيرتي صقليا وسردينيا. وتحتل موقعاً استراتيجياً متميزاً، وفيها تلتقي القارات الثلاث، أوروبا وآسيا وأفريقيا، وتنازلت عنها تركيا لبريطانيا بموجب اتفاقية لوزان (24 تموز/يوليو 1923)، لكنّ قبرص حصلت على استقلالها فيما بعدُ، وحاولت الاندماج مع اليونان، وهذا ما أثار حفيظة تركيا، التي سيطرت بعدها على الجزء التركي منها. ومنذ ذلك الحين تُعَدّ محل خلاف بين الدولتين، وهي منقسمة بين قبرص التركية وقبرص اليونانية، بحيث يُدير الأولى القبارصةُ الأتراك في الثلث الشمالي لقبرص، وتعترف بها تركيا فقط، ويدير القبارصة اليونان الثلثين الآخرين، وتحظى حكومتهم باعتراف دولي.
ومنذ انهيار محادثات إعادة توحيد الجزيرة، التي جرت برعاية الأمم المتحدة في سويسرا في تموز/يوليو 2017، لم تُجرَ أي مفاوضات رسمية بوساطة أممية لتسوية النزاع في قبرص.
بحر إيجه.. "قنبلة موقوتة"
على مدار أعوام، ظلت قضية جزر بحر إيجه مصدراً للخلاف والتوتر بين أنقرة وأثينا. وتجلّى نزاع السيطرة في المجالين البحري والجوي.
تتهم أنقرة أثينا بعسكرة الجزر المتناثرة في بحر إيجه. فاليونان سلّحت 18 جزيرة حتى الآن منذ ستينيات القرن الماضي، بحسب الجانب التركي، وتقول تركيا إنّ سيادة اليونان على الجزر مرتبطة بتحقيق شرط نزع السلاح بموجب اتفاقيات دولية، في إشارة إلى اتفاقيتي لوزان (1923) وباريس للسلام (1947).
اقرأ أيضاً: معاهدتا "لوزان" و"باريس".. ما علاقتهما بخلاف تركيا واليونان بشأن جزر إيجه؟
أمّا أثينا فتعتقد أنّ الظروف التي كُتبت فيها هذه الاتفاقيات تبدّلت، وأنّ من حقها تسليح الجزر، أسوة بتراجع سائر الدول الأوروبية عن تطبيق أوضاع مماثلة خلال الحرب الباردة، إذ توقَّف تطبيق قانون نزع السلاح في الجزر والأقاليم مع إنشاء منظمة حلف شمال الأطلسي وحلف وارسو؛ أي وقف نزع السلاح من جزر بانتيليريا الإيطالية، ولامبيدوزا ولامبيون ولينوسا وألمانيا الغربية من جانب الناتو، ووقف نزع السلاح من بلغاريا ورومانيا وألمانيا الشرقية والمجر من جانب حلف وارسو، ووقف نزع السلاح من فنلندا.
اقرأ أيضاً: اليونان: تركيا تهدد سيادتنا.. وجزرنا في بحر إيجه خط أحمر
ونتيجة لعدم التفاهم، تكررت المناوشات والمضايقات بين القوات الجوية والبحرية للجانبين، وتطورت في بعض الأحيان إلى اشتباك عسكري. إلّا أنّ التصعيد الأبرز تمثّل بسماح أثينا للولايات المتحدة بإقامة أكثر من 10 قواعد عسكرية في بعض هذه الجزر، تحت غطاء حلف الناتو، الأمر الذي أزعج أنقرة ، وأعاد التوتر بين الجانبين إلى ذروته.
البحر الإقليمي والجرف القاري
وتولّدت من قضية السيادة في بحر إيجه عدّة مشكلات، تُعَدّ فروعاً للمشكلة الأصل:
- مشكلة البحر الإقليمي: بينما ترى اليونان أن مد بحرها الإقليمي هو 12 ميلاً بحرياً، كسائر الدول البحرية، وأنه حقّ لها في حال الحاجة إلى ذلك، ترى تركيا أنّ قبولها ما تطالب به اليونان، سيحوّل بحر إيجه إلى بحيرة شبه يونانية، إذ سيخضع 71.53% من إجمالي البحر للسيادة اليونانية الكاملة، بينما ستصل هذه النسبة إلى 8.76% فقط لمصلحة تركيا. وسوف يصل نصيب البحر الدولي إلى 19.71% فقط لا غير، وهو ما تعدّه تركيا خطراً أمنياً واستراتيجياً بالنسبة إليها. وتعدّ تركيا أنّ هذا الأمر سيحرمها عدداً من الميزات، أهمها الثروات الموجودة في الجرف القاري، من نفط ومعادن، علاوةً على أنّ هذا الإجراء سيحدّ حرّية تركيا في الصيد، في منطقة تُعَدّ حالياً مياهاً دولية. وهو ما ترفضه تركيا، شكلاً ومضموناً.
- مشكلة الجرف القاري: ترى تركيا أنّ هذا الخط يتحدد بمسافة متساوية، بين سواحل هضبة الأناضول وحدود اليونان. وبناءً عليه، فإنّ الجرف القاري التركي سيصل حتى الغرب من عدد من الجزر اليونانية في بحر إيجه، وهو الأمر الذي رفضته اليونان.
النفط والغاز شرقي المتوسط
يُعَدّ التنقيب عن النفط والغاز في شرقي البحر المتوسط من أبرز نقاط الخلاف بين تركيا واليونان، وخصوصاً أنّ هذه المنطقة تحوي حقولاً غنية بالغاز الطبيعي، بحيث يقدّر تقرير لهيئة المسح الجيولوجية الأميركية، عام 2010، وجود ما يقارب 122 تريليون قدم مكعبة (أو 3455 مليار متر مكعب) من الغاز، بالإضافة إلى 1.7 مليار برميل من النفط في هذه المنطقة.
فتركيا تريد حصة جمهورية شمال قبرص التركية من الغاز قبالة قبرص، كما أنّها تحذّر اليونان من التوسع في التنقيب في المياه الإقليمية، وسبق أنّ أرسلت مقاتلات حلّقت فوق منصة استكشاف يونانية، في حين ترى اليونان أنّ تركيا تنقّب في منطقة مصالحها الاقتصادية.
ويتنافس في هذه المنطقة أيضاً مشروعان اقتصاديان كبيران، يسعى كلٌّ منهما لمدّ خط أنبوب شرقي المتوسط يصل إلى أوروبا. الأول يحظى بموافقة إسرائيلية، ويسعى لنقل الغاز إلى أوروبا عبر قبرص واليونان، ويبلغ طوله 1900 كم، واسمه "إيست ميد"، ويتقاطع خط المشروع مع المنطقة الموقع عليها بين تركيا وليبيا.
والخط الثاني يحمل اسم "تُرك ستريم"، وهو خط روسي تركي لنقل الغاز الروسي إلى تركيا، ثم إلى أوروبا الغربية وجنوبيها. وهذا المشروع ترفضه الولايات المتحدة الأميركية والاحتلال الإسرائيلي.
هل حانت ساعة المواجهة؟
على رغم الملفات الخلافية المتعدّدة والمتشابكة بين البلدين، والتي ترتبط بالأمن القومي لكليهما، والتي تشمل أيضاً ملف المهاجرين، والموقف اليوناني الرافض انضمامَ تركيا إلى الاتحاد الأوروبي... فإنّ احتمال اندلاع مواجهة بين الطرفين يبقى مستبعَداً، إذ إنّ هناك عوامل متعدّدة تساهم في منع انتقال البلدين من التوتر إلى التصعيد العسكري، أبرزها الحرب الروسية - الأوكرانية، وعضوية البلدين في الناتو، والتأثير الذي يشكّله بالنسبة إلى كليهما.
وعليه، فإنّ هذه التصريحات العدائية تحمل في طيّاتها رسالة ثلاثية الأبعاد، عبر الالتفاف على الوضع الاقتصادي الصعب لكلا البلدين، والعمل على التجييش الشعبي مع اقتراب البلدين من استحقاقات انتخابية مقبلة، ومحاولة كليهما إظهار قوته الردعية التي من شأنها أن تمنع أي تصعيد محتمل.
اقرأ أيضأً: خلفيات عودة التوتر بين أثينا وأنقرة وآفاقها