منسوب "الحرب الباردة" يرتفع.. كيف تقرأ بكين الزيارة اليابانية لواشنطن؟
كيف تقرأ الصين زيارة رئيس الوزراء الياباني، فوميو كيشيدا، للولايات المتحدّة، وخصوصاً أنّها تأتي بعد نحو شهر من تبني طوكيو استراتيجية دفاعية جديدة.
تحرُّك أميركي – ياباني لافت، بوجه ما يسمّيه الطرفان مواجهة "التهديدات الصينية"، تترجمه زيارة رئيس الوزراء الياباني فوميو كيشيدا للولايات المتحدّة، وتحتل فيها الصين أجندة المباحثات بين كيشيدا وبايدن.
الزيارة، التي تهدف إلى وضع ما سمّاه الرجلان "رؤية لتحالف حديث يهدف إلى الانتصار في حقبة جديدة من المنافسة الاستراتيجية"، جاءت بعد يومين على لقاء جمع وزراء الخارجية والدفاع في البلدين، بهدف تكثيف التعاون الأمني. كما أنّها تأتي على وقع الاستفزازات المستمرّة للولايات المتحدة واليابان وتايوان في بحر الصين الجنوبي، والمحاولات اليابانية لزيادة الإنفاق العسكري والتعزيزات العسكرية الأميركية في جزيرة أوكيناوا جنوبي اليابان... فكيف تقرأ الصين هذه التحركات؟
الاستراتيجية اليابانية الجديدة: من عقيدة دفاعية إلى أخرى هجومية
في السادس عشر من الشهر الماضي، أعلنت اليابان استراتيجية دفاعية غير مسبوقة، منذ نهاية الحرب العالمية الثانية (1945). فالدّولة، التي ينص دستورها على التعايش السلمي، وضرورة عدم امتلاكها "أي قوّة حربية هجومية في البحر أو الجو أو على الأرض، أو أيّ نوع آخر من الإمكانات العسكرية العدوانية" (المادة 9)، نتيجة هزيمتها في الحرب العالمية الثانية، اتخذت قراراً تاريخياً، وبدّلت عقيدتها العسكرية، من عقيدةٍ دفاعية إلى عقيدةٍ هجومية، تسعى لامتلاك صواريخ باليستية في إمكانها ضرب العمق الصيني، لتدخل في ذلك السباق الدولي المحموم نحو التسلّح، بذريعة ما تسميه "التحدي الاستراتيجي للصين".
من أوائل المتحمسين للإعلان، واشنطن، التي سارعت إلى تأكيد دعمها استراتيجية طوكيو العسكرية الجديدة، والقائمة على زيادة "الإنفاق الدفاعي" وتبني سياسة "الضربات المضادة"، انطلاقاً من أنّ ذلك "سيردع التنّين الصيني" عبر مواصلة عملية تطويقه، وفق ما تعتقد الولايات المتحدة، التي ترى في الصين وروسيا "تحدّياً استراتيجياً" لها، بحسب ما كشفت مؤخراً استراتيجية الأمن القومي.
اقرأ أيضاً: هل تستطيع الولايات المتحدة وقف الزحف الصيني نحو القمة؟
وتكشف العقيدة الدفاعية الجديدة لطوكيو مضاعفة ميزانية الدفاع، في غضون عام 2027، من نحو 1 % إلى 2 % من الناتج الإجمالي الخام، لثالث أكبر اقتصاد في العالم، الأمر الذي يعني تخصيص 320 مليار دولار لتعزيز قدراتها القتالية، وهو ما يمكّنها من رفع ميزانية الدفاع من 51 مليار دولار عام 2023، إلى أكثر من 80 مليار دولار في عام 2027، بعد أن كانت 40.2 مليار دولار عام 2022، الأمر الذي يجعلها تتفوق على كل من روسيا والسعودية، من حيث مخصصات الدفاع، ويضعها في المرتبة الثالثة بعد الولايات المتحدة والصين.
الأهم من ذلك، أنّ اليابان قرّرت امتلاك أسلحة هجومية، من طائرات حربية من الجيل الخامس (أف 35)، وصواريخ ذات مدى يطال العمق الصيني، ويغطي مساحة كوريا الشمالية، ويصل إلى جنوبي شرقي روسيا. وهو بالطبع موضع ترحيب من جانب الإدارة الأميركية، التي جعلت اليابان تؤدّي "دور الشرطي لها" في شرقي آسيا، ليخوض بالنيابة عنها حروباً بالوكالة ضد أعدائها في المنطقة.
جزيرة أوكيناوا: مفتاح العمليات العسكرية الأميركية في المحيط الهادئ
يُنظَر إلى أوكيناوا على أنّها مفتاح العمليات العسكرية الأميركية في المحيط الهادئ، ويرجع ذلك إلى وجودها في أكثر منطقة حسّاسة في العالم، بسبب قربها من الصين، التي تخوض حرباً مُستعرة تحت الرماد في مواجهة الولايات المتحدة.
فالجزيرة، التي ينظر إليها البنتاغون كعقدة مفصلية في إطار الاستراتيجية الأميركية، تكمن أهمّيتها في كونها تُشكِّل مركز الإمداد اللوجستي لسائر القواعد، وحتى للسفن والبوارج الأميركية في تلك المناطق القريبة من بحر الصين وتايوان وكوريا الجنوبية وغيرها.
اقرأ أيضاً: تقرير: واشنطن تنقل "تجربة أوكرانيا" إلى شرق آسيا لمواجهة الصين
وعلى رغم قيام الولايات المتحدّة الأميركية بإعادتها إلى اليابان، عام 1972، بعد أعوام من الاحتلال (منذ عام 1945)، فإنّ واشنطن، مع مرور الوقت، حوّلت الجزيرة، التي قتلت نصف سكانها، إلى قاعدة عسكرية تُعَدّ الأضخم لقواتها في المحيط الهادئ.
ويُقدَّر عديد القوات الأميركية في الجزيرة بنحو 54 ألف عسكري (يشكلون تقريباً نصف الانتشار العسكري الأميركي في منطقة المحيط الهادئ)، يتوزعون على 32 منشأة عسكرية تابعة للقاعدة الأميركية في الجزيرة.
لم تكتفِ الولايات المتحدة بهذا الحد. وعلى رغم معارضة سكان الجزيرة الوجود الأميركي خشية أن "يُستخدموا دروعاً بشرية للقواعد العسكرية في صراعات الدول"، فإن واشنطن أعلنت نشر وحدة جديدة للتدخل السريع من سلاح مشاة البحرية الأميركية (المارينز)، بحلول عام 2025، في الجزيرة. وجاء هذا القرار قُبيل ساعات من قمّة بايدن – كيشيدا، وترافق مع إعلان تعزيز معاهدة الدفاع المشتركة بين أميركا واليابان، لتشمل الهجمات التي تتمّ أيضاً عبر الفضاء، في خطوة تأتي في خضمّ تزايد القدرات الصينية عبر الأقمار الاصطناعية.
بكين تدعو إلى التخلي عن "عقلية الحرب الباردة"
تدرك الصين جيداً أنّ تغيير العقيدة العسكرية اليابانية يستهدفها، في الدرجة الأولى، أكثر من أيّ بلد آخر. لذلك، عبّرت عن قلقها من "الزيادة الكبيرة في ميزانية الدفاع اليابانية".
وأكدت أنّ "اليابان تبالغ في وصف التوترات الإقليمية، سعياً وراء تحقيق اختراقات عسكرية". كما رأت أنّ ذلك سيغيّر "جذرياً الظروف الأمنية شرقي آسيا"، وهو ما يفسّر دعوتها واشنطن وطوكيو إلى التخلي عن عقلية الحرب الباردة، والتوقف عن خلق أعداء وهميين، بل تذكّر بالتاريخ أيضاً، وتدعو إلى عدم تكرار مأساة الحرب العالمية الثانية.
اقرأ أيضاً: الصين.. الإمبراطورية الجديدة: فجوات القوة بين بكين وواشنطن (3/3)
أمّا فيما يتعلق بالردّ الصيني على هذه الاستفزازات، فيكمن ذلك في حجم التوتر الذي ستصل إليه الأمور. فالصين أكدّت مراراً أنّ جيشها "لن يقف مكتوف اليدين"، وهو ما يفتح باب التساؤل عن حربٍ محتملة قد تُقرع طبولها في أيّ لحظة، في منطقة تقف على بركان من التوترات، وخصوصاً في ظل التحشيد العسكري الكبير لبكين في بحر الصين الجنوبي، والمناورات المستمرة، التي تجريها الأطراف الدولية المتصارعة هناك، والتي قد تشكّل، في الوقت عينه، "حصانة"، نتيجةَ رسائل الردع المتبادلة، والتي قد تجعل خِيار المواجهة مستبعَداً حتى اللحظة، نظراً إلى الأوضاع الدولية الراهنة.