لماذا يظهر سلاح الجو الإسرائيلي كأبرز المعترضين على التعديلات القضائية؟
يعدّ الكشف عن هذا النوع من الاحتجاج الحادّ لأفراد أحد أكثر الأسلحة حساسية في "جيش" الاحتلال، والمبني على خلفيات سياسية في ظاهرها، وقومية وطبقية عميقة في باطنها، حدثاً نوعياً في الكيان الذي يعبر منتصف عقده السابع على وقع اضطرابات داخلية حادّة وعميقة.
وجّه رؤساء القوات الجوية الإسرائيلية الذين خدموا في فترات مختلفة، الاثنين، رسالة مفتوحة إلى رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو ووزير الدفاع يوآف غالانت، تفيد بأنهم "قلقون من تأثير التعديلات القضائية للحكومة في جاهزية طيّاري الجيش الإسرائيلي".
وبتصدّر قائمة الموقعين الجنرال دان تولكوفسكي، الذي شغل منصب قائد القوات الجوية الإسرائيلية من 1953 إلى 1958، وصولاً إلى أميكام نوركين، الذي كان قائداً للقوات الجوية حتى نيسان/أبريل 2022.
وكشفت وسائل إعلام إسرائيلية، الأحد، أنّ "90% من طياري السرب 69، وهو سرب المقاتلات الإستراتيجية في سلاح الجو الإسرائيلي، قرروا عدم الامتثال للتدريب المقرر إجراؤه يوم الأربعاء المقبل"، احتجاجاً على ما سمّوه "خطوات الانقلاب القضائي التي تنفذها حكومة نتنياهو".
ويعدّ هذا النوع من الاحتجاج الحادّ لضباط وأفراد أحد أكثر الأسلحة حساسية في "جيش" الاحتلال، والمبني على خلفيات سياسية في ظاهرها، واجتماعية وطبقية عميقة في باطنها، حدثاً نوعياً في الكيان الذي يعبر منتصف عقده السابع على وقع اضطرابات داخلية حادّة وعميقة على عدة مستويات.
ماذا يعني أن تبدأ السجالات السياسية بين الأحزاب والتيارات والجماعات الإسرائيلية المختلفة بالنفاذ إلى أقطار المؤسسات العسكرية في كيان الاحتلال؟ وأي خصوصية يمتلكها سلاح الجو الإسرائيلي في هذا الإطار على مستوى خلفيات حدث كهذا وتبعاته؟
كيان الاحتلال ليس استثناءً
تعكس الجيوش دائماً واقع مجتمعاتها، فيما تبذل قياداتها جهوداً هائلة في محاولات الفصل بين ما هو عسكري وما هو مدني، وكيان الاحتلال ليس استثناءً من هذه القاعدة.
خلال العقود الماضية، سعت المؤسسة العسكرية الإسرائيلية لتضخيم أسطورة قدرتها على الضبط والسيطرة، وتقديم نفسها على أنّها منفصلة تماماً عن أي سجال سياسي في كيان الاحتلال، تحت عنوان أنّ لدى العسكر الإسرائيلي "ما هو أهم من السياسة".
لكنّ الانقسام السياسي الحالي، وتبعاته التي ظهرت من خلال الاحتجاجات الحاشدة في شوارع المدن المحتلة، والقلق الذي عبّر عنه عشرات الجنرالات والضباط، ومعهم الجنود الإسرائيليون، كشف بشكل لا لبس فيه أنّ هذا الادّعاء وصل إلى حدّه.
اقرأ أيضاً: التعديلات القضائية و"الجيش" الإسرائيلي: تصدّعات في تشكيل الاحتياط
التشاؤم يعمّ الطبقات العليا الإسرائيلية
وكان بارزاً هذا الأسبوع حجم التشاؤم بشأن مستقبل الاحتلال، في تصريحات أطلقها مسؤولون بارزون من الطبقات العليا الإسرائيلية في داخل الكيان وخارجه.
وحذّر المؤرخ اليهودي البارز وأحد المستشارين البارزين لكبار السياسيين في العالم، سيمون شاما، في مقابلة مع صحيفة "ذي أوبزرفر" البريطانية اليوم، من أنّ "إسرائيل تواجه تفككاً في الميثاق السياسي والاجتماعي، بسبب تحركات لتغيير النظام القضائي بشكل جذري وتوسيع المستوطنات اليهودية في الأراضي المحتلة".
وأمس، صرّح رئيس بلدية نيويورك السابق ورجل الأعمال اليهودي الأميركي الداعم للاحتلال، مايكل بلومبرغ، بأنّ "إسرائيل تسير نحو كارثة"، معتبراً أنّ "حكومة نتنياهو تلحق ضرراً بتحالفات إسرائيل في العالم، وبأمنها في المنطقة، وباقتصادها ونظامها السياسي".
جاءت هذه التحذيرات لتوافق كلام الرئيس الإسرائيلي إسحاق هرتسوغ، الذي قال إنّ "إسرائيل" تعيش "أصعب اللحظات التي خبرتها، ونحن نعرف في صميمنا أنّ هذه الأزمة تمثل خطراً قومياً علينا"، وكان قد حذر في وقت سابق من هذا الأسبوع من أنّ "إسرائيل على شفا انهيار دستوري واجتماعي".
وخلال العقود الماضية، اعتمد الاحتلال على فورة "المشاعر القومية لدى الصهاينة"، التي أحدثتها نكبة فلسطين عام 1948، ثم احتلال غزة وسيناء والضفة وجزء من القدس والجولان، ومن بعدها اجتياح لبنان واحتلال جزء منه، لتبقي الخلافات الداخلية الحادة مكبوتة تحت ستار ضرورة التفرّغ للحرب مع الأعداء والتوسع.
أكثر من عقدين من دون "انتصارات"
لكنّ أكثر من 23 عاماً مرّت من دون "انتصارات إسرائيلية"، كان يتصور خيال المحتلين المؤسسين أن تدوم على حساب الدول والشعوب العربية، إضافة إلى عوامل ثقافية واجتماعية، أعادت إلى الواجهة الأسئلة الخلافية الكبرى التي حاولت عقيدة "بوتقة الصهر" أن تدمجها ذات يوم في كيان متجانس تعيش جماعاته المختلفة في وئام وانسجام.
ويبدو أنّ الجيش الموحّد الذي أراده أحد أبرز مؤسسي "إسرائيل" بن غوريون حلاً لمشكلة العصابات الصهيونية المتفرّقة بعد احتلال فلسطين عام 1948، مهدّد اليوم بالتفكك أكثر من أي وقت مضى، على خلفية ظهور الانقسامات الحادة في الشارع الإسرائيلي مع غياب أيّ آفاق حقيقية لحلّ داخلي جذريّ.
وإذا كانت بعض الجيوش تمتاز بقدراتها البرية، فيما تمتاز جيوش أخرى بقدراتها البحرية، فإنّ "جيش" الاحتلال الإسرائيلي لطالما اعتبر سلاح الجوّ "درّة تاج" ترسانته العسكرية ورأس حربتها.
موقعية سلاح الجو في عقيدة الاحتلال
ينسجم التفوّق الجوي في عقيدة "الجيش" الإسرائيلي مع القواعد الأساسية التي بني عليها الاحتلال، وهي الردع الأقصى للأعداء، ونقل المعارك إلى أراضٍ بعيدة عن الكيان، والذراع الطويلة القادرة على توجيه ضربات قاسية أينما دعت الحاجة.
في حديث للمحرّض الأساسي على الاحتجاجات الحالية، رئيس الحكومة السابق يائير لابيد، خلال حفل تخريج ضباط طيارين قبل أيام من تسليم منصبه لخصمه بنيامين نتنياهو، قال إنّه "لن يتردّد في إرسال المروحيات والطائرات وطياري سلاح الجو الإسرائيلي للدفاع عن إسرائيل من التهديدات القريبة والبعيدة".
وأشار لابيد إلى أهمية "أن يكون الجيش الإسرائيلي شرعياً وأخلاقياً، وإلا لن نحقق النصر في الحروب، ولن يكون لدينا حلفاء في المعارك التي تعتبر حيوية لسلامتنا"، متطرقاً إلى أهمية التدريبات المقررة، وبشكل خاص تلك المشتركة مع الولايات المتحدة، التي اعتبرها "أساسية ضدّ التهديدات الوجودية" للكيان.
وأكّد لابيد يومها أنّ هذا الأمر هو "أحد الموضوعات القليلة التي يوجد إجماع عليها بين الجمهور الإسرائيلي"، كاشفاً أنه ناقش هذا الأمر مع نتنياهو.
ومن خلال تتبع الإنفاق العسكري لحكومات الاحتلال المتعاقبة، يظهر أنّ الاختلافات السياسية بينها لم تمنع الاتفاق على ميزانيات هائلة لسلاح الجو، وصلت عام 2021 إلى حدود تخصيص 9 مليارات دولار لتطويره ورفده بطائرات جديدة، فيما لم يزد إجمالي ميزانية "جيش" الاحتلال عام 2022 على 19 مليار دولار.
ويشكّل سلاح الجو بمعناه الأوسع الذراع الرافعة لباقي قدرات "جيش" الاحتلال الإسرائيلي ومؤسساته الأمنية. وسواء في العمليات العسكرية أو الأمنية البعيدة التي تحتاج إلى تدخل بري، كعمليات الاغتيال والخطف والتفخيخ وغيرها، يعدّ سلاح الجوّ العنصر الموكل إيصال هذه القوات إلى مكانها وسحبها، كما حصل في لبنان وسوريا والسودان وتونس وغيرها.
اقرأ أيضاً: "إسرائيل على حافة الهاوية".. مسؤولون يتحدثون عن اقتراب أعمال العنف
لماذا يعارض سلاح الجو نتنياهو وتعديلاته القضائية؟
لم يكن هذا الاعتراض هو الأول تجاه نتنياهو، ولا يقف الأمر عند حدود قراره تعديل القانون وزيادة صلاحيات السياسيين في مقابل الحدّ من سلطة القضاء.
في كانون الأول/ديسمبر الفائت، حثّ أكثر من 1200 من كبار ضباط سلاح الجو الإسرائيلي المتقاعدين والمصنفين احتياط، بمن فيهم رئيس الأركان الإسرائيلي السابق، كبار "المسؤولين القانونيين" على الوقوف بصرامة ضد حكومة نتنياهو، وذلك في رسالة إلى رئيس المحكمة العليا الإسرائيلية ومسؤولين كبار آخرين.
وأكّد هؤلاء أنّ "تحالف الأحزاب الدينية والقومية المتطرفة يهدّد مستقبل إسرائيل"، مذكّرين بأنّ "القاسم المشترك بينهم اليوم هو الخوف من أنّ إسرائيل الديمقراطية في خطر".
وبرز من بين الموقعين دان حالوتس، الذي شغل منصب قائد الجيش في الفترة 2005-2007، وأفيهو بن نون، القائد السابق لسلاح الجو، وعاموس يادلين، الرئيس السابق للمخابرات العسكرية، والثلاثة هم طيارون مقاتلون سابقون.
وتبرز عدة عوامل أثناء البحث عن الأسباب التي تقف خلف تصدّر ضباط سلاح الجو في "جيش" الاحتلال مشهد الاعتراض الحاد ضد سياسات نتنياهو قبل سواهم من الوحدات والتشكيلات؛ ففي "جيش" الاحتلال، تعدّ صفة طيار في سلاح الجو "امتيازاً طبقياً" لمستوى معيّن من المستوطنين، لا مجرّد وظيفة مختلفة عن ضباط المشاة والبحرية والأسلحة الأخرى.
اقرأ أيضاً: لابيد: بعد أشهر ستتفكك "إسرائيل" ومجتمعها سينشغل بالكراهية
الاختلافات الطبقية في "جيش" الاحتلال
يرجع السبب في ذلك بشكل أساس إلى كون الأغلبية العظمى من طياري وضباط سلاح الجو ينتمون إلى طبقات تخرجت من المدارس والجامعات الكبرى في كيان الاحتلال، فضلاً عن ضرورة كون المتقدّمين للخدمة في هذا السلاح من المتفوقين في مجالاتهم واختصاصاتهم.
جغرافياً: المركز ضد الكيبوتس
يؤدي هذا المعيار إلى تحديد بعض الفئات الإسرائيلية التي تكون مخوّلة أكثر من غيرها بأشواط ليكون أبناؤها في عداد المرشحين للانخراط في مدرسة سلاح الجو، إذ لا يتيسّر التعليم العالي الجودة لساكني مستوطنات الأرياف والكيبوتسات الإسرائيلية، فينما يتوفّر بشكل أكبر لساكني المستوطنات الكبرى وضواحيها.
اقتصادياً: الطبقات العليا والمتوسطة المتخصصة ضد الطبقات العاملة والمزارعين
ولا يقف الأمر عند حدود الجغرافيا، فبطبيعة الحال، يملك أبناء عائلات الطبقة المتوسطة التي تتألف بشكل أساس من خريجي الجامعات والمتعلمين والتقنيين وأصحاب المهن الفنية والأساتذة والمعلمين والمهندسين والأطباء وغيرهم فرصاً أكبر بكثير ليحظوا بتعليم عالي المستوى ويتابعوا دراستهم الجامعية، بسبب قدرتهم الاقتصادية وطبيعة الفرص التي تتاح لهم.
اجتماعياً: المزراحي ضد الأشكيناز
وعندما ننظر إلى خريطة المشهد المركب للداخل الإسرائيلي، يظهر أنّ الإسرائيليين المهاجرين من دول الاتحاد السوفياتي السابق واليهود الأرثوذوكس والمتشددين، والذين يقيمون في الأرياف والكيبوتسات ومستوطنات غلاف غزة، ويغيبون عن تصدّر المشهد الاجتماعي في المدن الكبرى، هم أقلّ حضوراً في هذه المجالات في "الجيش".
ويجنح أبناء هذه الفئات إلى الخدمة بشكل واسع في الوحدات التي تعتمد على القوة البدنية والصلابة والتشدد وغيرها من الصفات التي يتميّز بها أبناء الأرياف، أكثر من أبناء المدن الذين يتصدّرون المشهد في الوحدات العسكرية المتخصصة والتقنية العالية.
اقرأ أيضاً: استقالة ضابط في سلاح جو الاحتلال الإسرائيلي رفضاً للتعديلات القضائية
"إسرائيل" دخلت في حرب ثقافية
يشير الدبلوماسي السابق والكاتب البريطاني ألستر كروك، في مقال أمس، إلى هذا الأمر، ويشرح أنّ ما يحدث في "إسرائيل" هو "معارضة هيكلية وديموغرافية متناقضة تتقدّم نحو انفجارها الحتمي منذ 23 عاماً على الأقلّ، أي منذ اللحظة التي قام فيها رئيس الوزراء الأسبق أرييل شارون باقتحامه الاستفزازي للمسجد الأقصى، وهو الذي أشعل فتيل الحركة القومية الراديكالية في كيان الاحتلال".
ويؤكّد كروك أنّ "ما يجري اليوم بعد 20 عاماً هو أنّ المستوطنين المتشددين والفصائل الدينية وصلوا إلى قمة القيادة السياسية في إسرائيل، وأنهم يخططون للبقاء فيها"، وذلك يعني أنّ التراجع أمام المستوطنين الليبراليين والعلمانيين وأبناء المراكز لن يكون مطروحاً بشكل جدي على الطاولة.
وقد أشار الإعلام الإسرائيلي إلى أنّ الطبقات الوسطى الإسرائيلية هي التي تغذي الاحتجاجات. وعلى الرغم من كون هذه الفئات بعيدة عن انتهاج العنف بشكل واسع وحاد، فإنها قد تلجأ إلى ذلك في وجه المزراحي والمستوطنين المتدينين، يقول كروك.
الاعتراض لن يكون الأخير
من هنا، يبدو أنّ الاعتراض الذي سجّله سلاح الجو على القيادة السياسية كان الأكثر بروزاً وجرأة، وفق الأسباب المذكورة أعلاه، ولكن لن يكون الاحتجاج الأخير على نتنياهو من قبل أفراد المؤسسات العسكرية والأمنية.
ويمكن أن نستشفّ ذلك من الكلمات التي أطلقها نتنياهو نفسه اليوم خلال زيارته إحدى النقاط العسكرية في كيان الاحتلال، عندما أكّد أن "لا مكان لعصيان الخدمة العسكرية في إسرائيل.. لأن رفض الخدمة في الجيش يهدد أساس إسرائيل الوجودي".
ويشي كلام نتنياهو بأنّ الأمر بات بالفعل يشكّل هاجساً حقيقياً يدرك الأخير أنّ الحديث عنه بهذه الكثافة اليوم هو خسارة فادحة لصورة "إسرائيل" القوية والموحّدة التي فشلت حكومته بشكل ذريع في تظهيرها.
الأزمة الحقيقيّة لنتنياهو اليوم تكمن في تعقّد العلاقة بين الحكومة الإسرائيلية التي يقودها وأحد أهم أذرع "جيش" الاحتلال، في ظروف داخلية وإقليمية يصفها بالصعبة. والأمر يتجاوز نتنياهو إلى مؤسسات الاحتلال كافة، باعتبار أن سلاح الجو هو الذي يراهن "الجيش" عليه في أي تحدٍّ إستراتيجي ووجودي يتعرض له الكيان.