"قارب الموت".. فاجعة قابلة للتكرار!
مشهد لا بد من التمعن به لفهم مسببات مغامرات الهجرة عبر البحر، أو حتى براً، في مناطق تسيطر عليها المجموعات المسلحة وتنشط عصابات تهريب البشر، فوقف كارثة غرق القارب ينطلق أساساً من معالجة تلك القضايا بالغة التعقيد.
الأرجح أن تكرر قوارب أخرى محاولة "قارب الموت" الذي أدى غرقه إلى وفاة أكثر من 98 شخصاً كمحصلة غير نهائية. قد تتجدد المحاولة من لبنان وسوريا أو حتى ليبيا التي باتت وجهة أخرى للهجرة غير الشرعية للعبور إلى الشواطئ الأوروبية.
الحصيلة الدامية شكلت صدمة لأهالي الضحايا ولكثيرين في سوريا ولبنان، من دون شك، لكنها لا تلغي عوامل أكثر من واضحة دفعت نحو 120 شخصاً، في أقل تقدير لعدد من صعدوا على متن القارب، إلى خوض مغامرة ركوب الأمواج عبر قارب غير مجهز لحمل هذا العدد ولقطع مئات الكيلومترات من شاطئ طرابلس اللبناني إلى الشواطئ الإيطالية.
ثمة تفاعل شعبي جارف مع الضحايا لا يمكن القفز من فوقه، وقد لا يقلّ دلالة عن حجم المصيبة، الأصوات الغاضبة على الشاشات في شمال لبنان والتجمعات الشعبية في تشييع جنازات الضحايا في اللاذقية، وقبلها التعاضد الشعبي لأهالي جزيرة أرواد في إنقاذ الضحايا، وعلى كورنيش طرطوس وحتى وسائل التواصل الاجتماعي تكاد تجمع على أسباب باتت تجبر كثيرين، لا فرق بين شاب وكهل، على المغامرة بحثاً عن أفق جديد، عن أبسط مقومات الحياة بعدما فاقمت الحرب والعقوبات الخارجية والفساد من أزمات معيشية موجودة أساساً..حال أجبرت عشرات الآلاف، وربما أضعاف ذلك العدد، على المغادرة، ليس عبر تلك القوارب فقط بل حتى براً وجواً إلى تركيا وأربيل وبغداد ودبي، وهي الوجهات المتاحة للسوريين حالياً.
هناك شرائح اجتماعية عريضة صمدت خلال عشرية الحرب على ضراوتها وخطورتها من موظفين ومزارعين وعمال ونخب مثقفة، هؤلاء عاشوا فترات خطر جدية في ظل التفجيرات وقذائف الهاون والقنص وكل مفردات الحرب وفي مختلف المناطق، وكانوا يأملون انفراجات أو، على الأقل، الحفاظ على الوضع الخدمي والمعيشي ذاته، ووعدوا بإطلاق مشاريع إعمار تزج بطاقات مئات الآلاف منهم ضمنها بعد سنوات من القحط والتقشف. لكن تلك التطلعات، على واقعيتها، اصطدمت بواقع مختلف للغاية.
في مفردات الحياة اليومية، ضغط معيشي أدخل أكثر من 90% من السكان في خانة الفقر، وتدهور في قطاعات خدمية أساسية من بينها الكهرباء والنقل العام والصحة والتعليم، وكل عنوان منها يشكل ملفاً بذاته، تحديات أسهمت سياسات حكومية، قوامها رفع الدعم التدريجي في بلد صمم اقتصاده وحياة مجتمعه على الدعم، في تفاقمها بدلاً من حلحلتها، وتحوّل الحصول على وقود السيارة والتدفئة والغاز المنزلي والخبز والأرز والسكر.. إلى مخصصات تحددها بطاقة إلكترونية تموينية رافقها رفع متتال في الأسعار وإبعاد شرائح رأت الحكومة أنها لا تستحق الدعم عن منظومة الدعم، وبيعها تلك المواد وفق أسعار السوق.
إجراءات وعوامل زادت من الضائقة المعيشية، وأبرز عناوينها مستوى رواتب وأجور لا يتجاوز 150 ألف ليرة سورية للموظف الحكومي، في وقت تحتاج العائلة المؤلفة من 5 أفراد إلى أكثر من مليوني ليرة شهرياً، بحسب أقل التقديرات.
هذه العوامل لا تنفصل عن دمار هائل في البنى التحتية والمنازل سببته الحرب، وطال مناطق واسعة في حلب وحمص وريف دمشق ودرعا ودير الزور وغيرها، وعدم قدرة أهاليها على ترميمها أو العودة إليها، بالرغم من جهود حكومية واجهت على الدوام نقص التمويل..وأخيراً، ثمة انقسام حاد في المجتمع مع بروز فئة استفادت من الحرب لتحجز موقعاً متقدماً في المشهد الاقتصادي..
مشهد لا بد من التمعن به لفهم مسببات مغامرات الهجرة عبر البحر، أو حتى براً، في مناطق تسيطر عليها المجموعات المسلحة وتنشط عصابات تهريب البشر، فوقف كارثة غرق القارب ينطلق أساساً من معالجة تلك القضايا بالغة التعقيد، أو بعضها على الأقل ضمن خطط واضحة ومجدولة زمنياً قبل الحديث عن مراقبة الشواطئ أو تقديم مواعظ من قبيل التساؤل: ما الذي يدفع هؤلاء إلى المغامرة بأرواحهم، مع أن الجواب يمتلكه السواد الأعظم من السائلين!