عن عائلة أبو غوش.. البيت الفلسطيني عماده الشهيد والأسير

أن تنادي فئة من الإعلاميين بالحياد في بلد يعيش التهجير والقتل بشكل يومي هو أمرٌ صعب وأشبه بالانتحار، ويتعارض مع مبادئ الصحافي بصفته ناقلاً للرسالة أولاً.

  • جدران البيت الفلسطيني تروي حكايات اللجوء وذكريات هُدمت في ليلة وضحاها
    جدران البيت الفلسطيني تروي حكايات اللجوء وذكريات هُدمت في ليلة وضحاها

بيت العائلة "النموذجي" يضمّ أماً وأباً وأبناء. أما البيت الفلسطيني، فيعيش في كنفه أم وأب وشهيد وأسير وأسير وأسير وشهيد وجريح، وقد يزفّ الأبناء آباءهم وأمهاتهم إلى المجد شهداء أو العكس. وربما يلتقونهم مرة واحدة على مدار شهر خلف زجاج الزيارات العائلية في سجون الاحتلال. 

جدران البيت الفلسطيني تروي حكايات اللجوء وذكريات هُدمت في ليلة وضحاها. البيت الفلسطيني مجبول بالعزّ والفخر، ويكحّله أمل بغدٍ يزهر من قبور الشهداء نصراً نحو الحرية.

في البيت شوق إلى عناق الأبناء 

على مدار 6 سنوات، انتظرت عائلة أبو غوش عودة ابنها حسين إلى منزله، إلى غرفته وفراشه الدافئ. حافظت العائلة على مقتنياته وثيابه كما وضعها الشهيد، وكذلك على ذكرياته في بيتهم الجديد، فالبيت الذي زرع فيه حسين مبادئه هدمته سلطات الاحتلال كسياسة عقاب جماعي.

استشهد حسين عام 2016، بعد تنفيذه عملية طعن أدت إلى قتل مستوطنة، وذلك في مستوطنة "بيت حورون" المقامة على أجزاء من بلدة بيتونيا وقرية بيت عور الفوقا، وكان يرافقه الشهيد إبراهيم علان. تمضي السنوات وتستمر ممارسات الاحتلال بحق العائلة، ويسلّط سيف الاعتقال على رقبة ابنها سليمان، ليلتحق بشقيقه حسين في الغياب.

سليمان أبو غوش (19 عاماً) اختطفته قوات الاحتلال من منزله للمرة الرابعة في 12 أيلول/سبتمبر 2022. استيقظ على صوت الجنود الإسرائيليين، ليجدهم فوق رأسه، بعدما اقتحمت قوة خاصة منزله في مخيم قلنديا شمال القدس المحتلة، وتعرض خلال الاقتحام للضرب المبرح والتهديد بقتل أفراد عائلته.

اقتادت قوات الاحتلال سليمان إلى "معسكر عتصيون" الواقع جنوب مدينة بيت لحم. وبحسب محاميه، قد يمضي يومين داخل مركز التوقيف بذريعة الحجر الصحي إثر جائحة كورونا. وتفيد تجارب الأسرى وشهاداتهم بأنّ مركز توقيف عتصيون من أسوأ مراكز الاحتجاز، ولا يصلح للعيش الآدمي، فكيف تكون شروطه ملائمة للحجر الصحي؟ 

لا يعلم أحد ظروف الاعتقال التي يمرّ بها سليمان، فهو ممنوع من لقاء محاميه أو التواصل مع عائلته، ولكن وضع السجون ومراكز التوقيف والاستجواب يعطي مؤشراً إلى كل من مرّ بها.

الصحافي محايد؟

منذ أن بدأتُ دراسة الصّحافة والإعلام في جامعة بيرزيت عام 2016، وأنا أسمع خلال المحاضرات عن مبادئ الصحافة وأخلاقياتها، وكيف يكون الصحافي محايداً، ويتجنب الكتابة أو تغطية الأخبار المرتبطة بعائلته، وأن عليه الفصل بين العمل المهني ومشاعره الإنسانية. آنذاك، كنت أبتعد عن ذكر أي اسم من أسماء عائلتي، وعن المواضيع التي تتعلق بالعائلة. 

واليوم، أكتب عن شقيقي سليمان الَّذي ترعرع بين زقاق المخيم وجدران السجن، وحارب من أجل استكمال مرحلة الثانوية العامة في سجون الاحتلال. سليمان شاب هادئ وعقلاني يحمل صفات تتفوق على أبناء جيله نتيجة التجربة، وهو ذو حضور مميز؛ فعندما يتحدث خلال الجلسات العائلية يذهل الحاضرين، فكيف كبر سريعاً؟

أن تنادي فئة من الإعلاميين بالحياد في بلد يعيش التهجير والقتل بشكل يومي هو أمرٌ صعب وأشبه بالانتحار، ويتعارض مع مبادئ الصحافي بصفته ناقلاً للرسالة أولاً، وفلسطينياً يجسد الحقيقة ثانياً، وخصوصاً أن الصحافي نفسه يتعرض للاعتقال والاعتداء والقتل، كما أبناء قضيته.

كلمة صحافة على قميص أزرق لا تعني شيئاً أمام رصاص جندي إثيوبي/أوروبي/أميركي حاقد. قد يكون جسد الصحافي مغرياً للقتل أكثر من غيره، لأنه صوت الحقيقة، وهم يريدون قتل حقيقتهم، كما فعلوا مع الصحافية شيرين أبو عاقلة وغيرها، فكيف لا يكتب الصحافي عن شقيقه الأسير أو الشهيد أو عن عائلته التي انتزعت من قرية عمواس قضاء الرملة عام 1967، ثم شردت من منزلها عام 2016، كسياسة عقاب جماعي بعد استشهاد ابنها!

طفولة رهن الأسئلة عن مصير مجهول

 تقتحم قوات الاحتلال منازل الفلسطينيين في ساعات الفجر الأولى لتنفيذ الاعتقالات، وهو الأسلوب الأكثر انتشاراً لترهيب العائلات، وتحديداً الأطفال، وخوفاً من تصدي الشبان لهم. وبعد اختراق منازلهم التي لم تعد آمنة، يتعامل الجنود الإسرائيليون مع الفلسطيني بأشدّ درجات التوحش والتأهّب، ويتركون خلفهم الدمار. 

شهد أشقائي الأطفال الاقتحامات المتكررة للمنزل، ما ولّدَ لديهم مشاعر الخوف والقلق والأسئلة المتكررة، فها هي إيلياء تبلغ من العمر 6 سنوات، وتُصّرُ على معرفة أسباب اعتقال سليمان. وأحياناً، توجّه إلينا العتاب، وتعتقد أننا لم نحمِه من الاعتقال.

3 اعتقالات سابقة

اعتقلت قوات الاحتلال سليمان للمرة الأولى في 14 كانون الثاني/يناير 2019. كان عمره حينها 15 عاماً. وبعدما اقتحمت قوات الاحتلال المنزل، قاموا بتسليم العائلة أمراً باعتقاله، فيما كان موجوداً في منزل أقرباء العائلة. 

تعرضت العائلة للتهديد بهدم المنزل، وجرى التحقيق مع شقيقي إبراهيم (11 عاماً). بعد عودة سليمان إلى المنزل، قام بتسليم نفسه تحت الضغط عند حاجز قلنديا العسكري، واستمر التحقيق الميداني معه 5 ساعات، ثم أطلق سراحه. وما إن وصل إلى المنزل وتناول وجبة الإفطار مع العائلة، حتى تلقى اتصالاً هاتفياً من ضابط الجيش، مفاده أن الإفراج عنه كان خطأ، ويجب أن يسلم نفسه أمام سجن عوفر.

تعرّض خلال الاعتقال الأول للتفتيش المستمر في "معسكر عوفر"، ثم تعمدت سلطات الاحتلال نقله من جيب عسكري إلى آخر، قبل نقله إلى قسم الأشبال في عوفر لمدة يومين، ثم جرى التحقيق معه لمدة ساعة، ثم أعيد إلى القسم، ووجهت إليه تهمة التحريض في وسائل التواصل الاجتماعي، بالتزامن مع إصدار أمر الاعتقال الإداري لمدة 4 أشهر. ولاحقاً، صدر قرار نهائي بالملف القانوني، وهو الاكتفاء بفترة الاعتقال، إضافة إلى غرامة مالية تقدر بـ1000 شيكل، وأفرج عنه بتاريخ 13 أيار/مايو 2019.

جاء الاعتقال الثاني بتاريخ 5 أيلول/سبتمبر 2019، بعد تحرره من سجن عوفر بأربعة شهور. تعرض للاستدعاء من أجل مقابلة مخابرات الاحتلال في عوفر. ولاحقاً، أصدر بحقه أمر الاعتقال، وتم تحويله إلى مركز تحقيق المسكوبية في القدس المحتلة.

 استخدمت مخابرات الاحتلال سليمان كأسلوب للضغط النفسي والابتزاز العاطفي بحقّي خلال وجودي في مركز تحقيق المسكوبية، وهو أسلوب تستخدمه المخابرات بحق الأسرى على مدار سنوات طويلة، وترافقه عدة أساليب أُخرى.

كان اللقاء مؤلماً. طُلب مني تحت الضغط والتعذيب توديع شقيقي من دون إعلامه بالأساليب التي استخدمت معي أو القضية التي اتهمت بها، وإلا سوف يتعرّض للأساليب نفسها في التحقيق. وخلال اللقاء الذي لم يتجاوز 5 دقائق، سألني بصوت كلّه قوة: "عملولك إشي". أجبت بالنفي. وبعد ذلك، نقل سليمان إلى سجن عوفر، وأصدر بحقه أمر الاعتقال الإداري لمدة 4 أشهر.

أعيد اعتقال سليمان للمرة الثالثة من مدينة عكا المحتلة بتاريخ 20 تشرين الأول/أكتوبر 2020، قبيل موعد الإفراج عني من سجن الدامون. اقتحمت قوة من جنود الاحتلال الحافلة التي كان يستقلها، وقاموا بالاعتداء عليه، واقتادوه إلى خارجها، واستكملوا تعذيبه ميدانياً، ثم جرى نقله إلى مركز تحقيق المسكوبية، وخضع للتحقيق لمدة 30 يوماً، ووجهت إليه لائحة اتهام. وبناءً عليها، أصدرت محكمة الاحتلال العسكرية في عوفر حكماً بسجنه لمدة 18 شهراً، ودفع غرامة مالية بقيمة 2000 شيكل.

نضالنا عالمي وأُممي

الفلسطيني صاحب قضية، ولا يسعى مِنْ عرْضِ تجربته لاستعطاف العالم العربي وشعوب العالم أو لنيل المساعدات المالية التي تستخدم ورقة ضغط عليه من الولايات المتحدة الأميركية والدول الأوروبية. وكذلك، لم يبع أرضه، ولم يساوم يوماً من أجل خيمة أو لقمة طعام تقدّمها وكالة الغوث وتشغيل اللاجئين، كما يدّعي "أحباب السلام"، بل إنه متمسك بحق العودة، ويناضل لاسترداد كل التراب الفلسطيني. وقد ظل يعصر جراحه حتى نبت من جرحه ألف انتصار وانتصار.

الشعب الفلسطيني يطرق أبواب ذاكرة شعوب العالم التي خاضت النضال ضد أشكال الاستعمار الإمبريالي الرأسمالي، ويقدم تجاربه بدمه وروحه، ويعممها على شعوب العالم، ليقول لهم: نحن نُقمع ونُقتل بالأدوات والأساليب ذاتها؛ فها هو الصحافي التونسي غسان بن خليفة تعرَّض للاعتقال من قبل السلطات التونسية، بذريعة دعم الإرهاب والتواصل مع جهات إرهابية، فيما ناضل غسان ضد التطبيع العربي مع "إسرائيل"، وكان الصوت التونسي الحرّ، وها نحن نرى أيضاً تجربة الأسير اللبناني جورج عبد الله، الذي ما زال معتقلاً في السجون الفرنسية منذ 38 عاماً، بسبب انخراطه في صفوف الثوار الفلسطينيين.

إنَّ مشاركة التجارب تحفّز شعوب العالم لمواصلة إسناد القضية الفلسطينية، وتؤكّد ضرورة مقاطعة "إسرائيل" على كل الصعد، في ظل تسابق الدول العربية والخليج نحو تطبيع العلاقات معها تحت مسمى السّلام والتطور والازدهار الاقتصادي. واليوم، يقول الفلسطيني لمن ساوم: "هذه دماء ابني، وأنت شريك في قتله. هذه أصفاد ابني وأنت شريك في أسره".

اخترنا لك