"عكس التوقعات 2022": الحرب في أوكرانيا.. هل استمرت عمليةً خاصة؟
لم يتمكن أيّ من السيناريوهات الموضوعة، بصورة جدية، من صياغة مشهد مشابه للوضع الحالي الذي وصل إليه الصراع بين روسيا والأطلسي في أوكرانيا.
حمل عام 2022 مفاجآت عالمية كبرى، في عدة مستويات، لعلّ أبرزها وأشدّها تأثيراً كان استعار الحرب بين روسيا وحلف الناتو مجدداً، وبصورة لا يمكن تصنيفها بأنها لا تزال ضمن النزاع "غير المباشر" إلّا في الأدبيات الدبلوماسية والبروتوكولية، فقط لأنّ القطبين لم يعلنا رسمياً، حتى الآن، الحرب، أحدهما على الآخر.
في أرض الواقع، دخل القطبان العالميان التاريخيان، روسيا والولايات المتحدة، في مواجهة غير مباشرة، تُعَدّ الأعنف في القارة الأوروبية منذ الحرب العالمية الثانية، بشهادة معظم القادة الأوروبيين وقادة الناتو.
وعلى الرغم من كلّ الإرهاصات التي سبقت الانحدار في العلاقة إلى مستوى المواجهة المسلحة و"كسر الإرادات"، وعلى الرغم من توقعات مفادها أنّ فترة جو بايدن الرئاسية ستشهد تصعيداً للجبهات مع الشرق، أي مع روسيا والصين وإيران، فإنّ أياً من السيناريوهات الموضوعة، بصورة جدية، لم يتمكّن من صياغة مشهد مشابه للوضع الحالي الذي وصل إليه الصراع.
ما كان متوقَّعاً مطلع العام
لقاء بوتين وبايدن في جينيف يؤشّر على التهدئة
بعد أقل من أسبوع من تولي بايدن منصبه في كانون الثاني/يناير 2021، وافق هو وبوتين على تمديد معاهدة الحدّ من الأسلحة الاستراتيجية الجديدة إلى عام 2026.
ولاحقاً، تحدّث مسؤولون أميركيون عن الاتجاه نحو "بناء علاقة واضحة ومستقرة بروسيا".
وقبل الرئيس الروسي دعوة بايدن بعد ذلك إلى عقد اجتماع في جنيف، وأنبأ حدوث اللقاء بين الرئيسين، في 16 حزيران/يونيو، بإيجابية مقبلة قد تَسِم العلاقة الثنائية بين البلدين خلال فترة حكم الديمقراطيين.
وخلال الأشهر التالية، حقق مسار اللقاءات الثنائية "تقدماً" باعتراف الطرفين، كما زار كلّ من جون كيري وأنتوني بلينكن وويليام بيرنز موسكو، وهم نخبة الصف السياسي والصف الأمني في إدارة بايدن.
روسيا تتوقع تصعيداً أميركياً محدوداً
على الرغم من تكرار الزيارات واللقاءات، فإن موسكو لم تكن مسلّمة بالإيجابية الأميركية.
وأكّد المفكر الروسي، ألكسندر دوغين، الذي يراه الغرب أحد أبرز المعبرين عن الفلسفة الروسية للمواجهة مع الكتلة الغربية، قبيل بداية التصعيد في الجبهة الأوكرانية، أنّ "ثمة تصعيداً أميركياً روسياً في المرحلة المقبلة".
وأضاف دوغين أنّ "هذا ما يمكن أن نستشرفه مع قدوم بايدن إلى السلطة، إذ ستحاول واشنطن في عهده أن تواجه روسيا وآسيا من خلال "إحياء" الصراعات في آسيا الوسطى والقوقاز، وستحاول تطويق روسيا من أجل إعادة إحياء كل الصراعات المحتملة في منطقة النفوذ الروسي".
وبالفعل، فإنّ التوسّع الأميركي شرقي أوروبا، ودعم التصعيد ضدّ روسيا في أوكرانيا وسواها، لم يتوقّفا لحظةً مع خطوة بايدن وإدارته، كما استمرّت السياسة الأميركية في تحريك عدة أوراق على طول جمهوريات الاتحاد السوفياتي السابق، في محاولاتها المستمرة، منذ انهيار الاتحاد، تحجيمَ روسيا ومحاصرتها.
ولعلّ ما شكّل أبرز المؤشرات على أنّ الأمور تتجه بالتدريج نحو مزيد من التأزّم، كان تحشيد روسيا قواتها عند حدودها الغربية، في مثل هذه الأيام، من العام الماضي.
وعلى الرغم من ذلك، فإنّ قيام روسيا بعملية عسكرية واسعة في أوكرانيا ظلّ، حتى اللحظة الأخيرة، مستبعداً، وقرأه المحللون على أنه "ضغط عسكري" يهدف إلى تحقيق مكاسب سياسية.
الصحافة الغربية وتمنيات الحرب
امتلأت الصحافة الغربية، عقب بدء روسيا تحشيدها العسكري عند الحدود مع أوكرانيا أواخر عام 2021، بتوقعات عن عملية روسية وشيكة، وصلت إلى حدّ الحتمية.
ووصل الأمر إلى أن عنونت "ديلي تلغراف" و"نيويورك بوست" و"واشنطن بوست"، في منتصف شباط/فبراير الفائت، أنّ القوات الروسية قد تهاجم أوكرانيا "في أي لحظة"، و"قبل نهاية الأسبوع"، و"قبل آخر الشهر".
لكنّ إجماع الإعلام الغربي على مثل هذه العناوين، والذي يُستبعد أن يكون بعيداً عن توجهات المؤسستين السياسية والأمنية الأميركيتين، عبّر عن "أمنيات أميركية" للتوظيف السياسي أكثر مما عبّر عن توقعات أو معلومات، كما كان يهدف إلى تسجيل نقاط على موسكو في حال لم تُقْدِم على عمل عسكري.
وبقيت موسكو، حتى اللحظة الأخيرة، تشير إلى أنّ خطوتها تهدف إلى الدفع في اتجاه "تحقيق مطالبها بشأن ضمانات أمنية في عمقها الجيو - سياسي"، عبر إظهار الجدية والجاهزية.
لكنّ الأميركيين راهنوا، بصورة كبيرة، كما بات واضحاً بعد 10 أشهر من الحرب، على أنّ تجاهل مطالب روسيا الأمنية بشأن إنهاء النازية والعداء لروسيا والروس في أوكرانيا، ومن جانب النظام الحاكم، وبشأن إحلال السلام في دونباس والمناطق ذات الأغلبية الروسية، وضمان عدم تسليح أوكرانيا أو ضمّها إلى "الناتو"، سيؤدي إلى استفزاز موسكو ودفعها إلى شنّ عملية عسكرية تبرّر سياسة التصعيد الغربي ضدّها.
اقرأ أيضاً: الكرملين: موسكو وواشنطن تعمّقتا بالعداء.. ولا مكان للتهنئة بين بوتين وبايدن
ما الذي حدث على الأرض؟
خيار الضرورة: روسيا بين انتظار الحرب أو المبادرة إليها
بعد أن أصبح واضحاً لدى موسكو أنّ واشنطن مصممة على التصعيد "بصورة تدريجية" معها، أراد الروس حرباً خاطفة ونصراً سريعاً، على طريقة حرب جورجيا عام 2007، وحرب القرم عام 2014، الأمر الذي سيسلب المبادرة من يد واشنطن وحلفائها، ويلجم طموحات الناتو في الحديقة الخلفية الروسية، بدلاً من الانتظار وتلقي الضربات.
ظهر ذلك في أرض العمليات من خلال اعتماد الجيش الروسي التقدم الطولي والخرق السهمي السريع بداية الحرب، وعدم لجوئه إلى سياسة الأرض المحروقة والتدمير الواسع، وعدم قصف المدن والبنى التحتية، وتجنب استهداف المدنيين الأوكرانيين قدر الإمكان.
كما أنّ القادة الروس، بمن فيهم الرئيس بوتين، أكّدوا أكثر من مرة أنّ الحرب كانت استباقية، من أجل تجنب الوقوع في مصيدة غربية كانت تحضّر لموسكو من خلال أوكرانيا.
ولاحقاً، صرّح أكثر من مسؤول أوروبي وغربي بأنّ الأجواء الإيجابية، التي كانوا يُظهرونها لموسكو من حين إلى آخر، كانت من أجل "شراء الوقت"، ولم يكن هناك استعداد لدى دولهم لقبول روسيا وسياساتها المستقلة.
اقرأ أيضاً: إلى جانب من يقف الشتاء في حرب أوكرانيا؟
مفاجآت الميدان: العملية العسكرية تصبح حرباً طويلة؟
لم تتمكن روسيا من حسم الحرب سريعاً، بعكس توقعات قادتها، وبعكس توقعات عدد من الخبراء العسكريين الغربيين أيضاً.
كما أنّ النظام الأوكراني، الذي خسر في الأسابيع الأولى معظم مقوّمات بقائه الداخلية، الأمر الذي جعل المحللين الروس وغيرهم يرون أنّه "ساقط حتماً" حتى قبل وصول القوات الروسية إلى أطراف كييف الشمالية والشرقية، ظلّ يستمدّ قوّته من الدعم الغربي الواسع وغير المسبوق، سياسياً وإعلامياً.
ولم يقتصر الدعم الغربي للنظام الأوكراني على ذلك، بل أغدقت الحكومات الغربية، وبصورة أساسية واشنطن ولندن، دعمها على كييف، عسكرياً واستخبارياً، على نحو هائل، وهو ما جعل الجيش الروسي، الذي يُفترض أنه يخوض عملية عسكرية خاصة محددة الأهداف ضدّ قوات أوكرانية معروفة الإمكانات، ينتقل إلى خوض حرب ضدّ مقدرات دول الناتو والاتحاد الأوروبي مجتمعة.
اقرأ أيضاً: المساعدات الغربية لأوكرانيا خلال عام 2022 تجاوزت 120 مليار دولار
جبهة روسيا الداخلية والسياسية
حافظ الجيش الروسي على زخمه في مقابل تسخير الدول الكبرى وحلفائها معظم قدراتها العسكرية الميدانية في حربها ضد روسيا، ومن غير أن يضطر حتى الآن إلى الاستعانة ببيلاروسيا وجيشها، وحافظ بصورة جيدة على معظم الأراضي التي استقرّت فيها قواته شرقي نهر الدنيبر.
كما صمد الاقتصاد الروسي، بصورة غير متوقعة، بحسب البنك الدولي، الأمر الذي أظهر حجم التخطيط والإدارة الاستثنائيين للاقتصاد الروسي من جانب موسكو.
لكنّ تحوّل الحرب نحو هذا المنحى الاستنزافي لقوات روسيا جعل من الصعب الاستمرار فيها، بحسب الخطة الأساسية، بسبب صعوبة تحقيق نتائج سريعة وخاطفة كما كان يخطط الكرملين، فحدثت الانسحابات السريعة من مناطق غربي الدنيبر، من أجل سلب كييف فرصة توجيه أي ضربة كبيرة إلى القوات الروسية، يمكن أن تُستثمر، في حال حدوثها، في رفع معنويات قواتها.
وعلى الرغم من ذلك، فإن الوضع الحالي لنظام زيلنسكي لا يُعَدّ جيداً، إذ بدأ عدد من داعميه الدوليين يتململ من عدم تحقيق أي إنجاز عسكري يعتدّ به على الرغم من استنزاف مخزونات الأسلحة والذخائر الغربية. كما بدأت تحركات شعبية وسياسية معارضة للدعم المفتوح لكييف تظهر في عدد من البلدان الأساسية الداعمة، بما في ذلك دول الاتحاد الأوروبي، وفي الولايات المتحدة.
اقرأ أيضاً: واشنطن تسعى لسدّ النقص في أسلحتها.. وشركات السلاح تنتظر العائدات المالية
لماذا جاء الواقع عكس التوقعات؟
الناتو يريد إطالة أمد الحرب
بات من الواضح أنّ الناتو _ وتحديداً واشنطن _ يريد إطالة أمد النزاع في أوكرانيا نتيجة سببين كبيرين: الأول والأهم إشغال روسيا واستنزافها، وإيجاد مبرر لاستمرار سياسة العقوبات القصوى ضدها، وعدم السماح بتحولها إلى منافس "طبيعي"، ولو كان ذلك على حساب راحة أوروبا ورفاهيتها.
أمّا الثاني فهو تدمير الدولة في أوكرانيا، صاحبة أهم الاحتياطيات العالمية من المعادن والثروات والأراضي الزراعية، منعاً لأي احتمال لعودتها إلى يدي روسيا كما كانت سابقاً.
اقرأ أيضاً: الناتو يدعو إلى إرسال مزيد من الأسلحة إلى أوكرانيا.. من أجل السلام!
نظام كييف يهتم بمصالح الدول الغربية
من الواضح أنّ النظام الأوكراني لم يعد يفكّر كنظام ديمقراطي يحكم دولة وشعباً، بل كنظام أمر واقع يمثل مصالح دول الناتو وأوروبا وخياراتها السياسية.
فالنظام الذي تبنى سياسة العداء لروسيا، ولم يبالِ في الأساس بأوضاع الملايين من مواطنيه في دونباس، والذين تربطهم بروسيا علاقات عرقية ولغوية وعائلية وجغرافية، فضلاً عن المصالح الاقتصادية والروابط الاجتماعية التاريخية، لا يبني الآن سياساته وفقاً لمصالح شعبه.
اقرأ أيضاً: أسلحة غربية في طريقها إلى مولدوفا.. أي مسار تأخذه الحرب الروسية الأطلسية؟
أي مستقبل لأوكرانيا إذاً؟
عشية عام 2023، تقف أوكرانيا، دولةً وشعباً، أمام خيارات لا تدعو إلى التفاؤل، بين مطامع بولندا في الاستحواذ على مناطق أوكرانيا الغربية، وبين إغراق مناطقها الشرقية بالمرتزقة الأجانب والميليشيات النازية والجماعات القومية المتطرفة، وبين تراكم الديون وتفاقم الدمار ونزوح الملايين داخل البلاد، ونحو 8 ملايين لاجئ خارج البلاد.
ويظهر أنّ تبنّي سياسات واشنطن من جانب نظام زيلينسكي وأوليغارشيي اليمين المتطرف، والذين جاءوا إلى الحكم عبر "ثورة ملوّنة" حدّدت أهدافها بإنهاء حكم "المؤيدين لروسيا"، لم يأتِ بغير الدمار والفقر والتشريد على الشعب الأوكراني.
كما يظهر أنّ واشنطن كانت المستفيدة الأولى من الحرب، ويتبعها أركان النظام الأوكراني ثانياً، والذين باتوا أبطالاً في البروباغندا الغربية، و"سماسرة" لمليارات من دولارات دافعي الضرائب الغربيين، تتدفق يومياً إلى كييف، ومنها إلى جيوب أصحاب شركات الأسلحة الأميركية والأوروبية، والذين باتوا أيضاً من أبرز المستفيدين.