عامٌ على أحداث الشغب في إيران: استراتيجية كشف التآمر ومنع تكراره
نجحت إيران، قبل عام، في احتواء مخطط غربي لضرب أمنها واستقرارها من خلال أعمال الشغب التي اجتاحت البلاد، وذلك ضمن استراتيجية داخلية، وأخرى خارجية، لم تنتهِ مع انتهاء الاضطرابات، بل ما زالت مستمرة.
"إيران ليست مكاناً للانقلابات العسكرية ولا للثورات الملونة، وهناك فرق بين الاحتجاج وإثارة الاضطرابات والشغب".
- وزير خارجية إيران حسين أمير عبد اللهيان لصحيفة "نيويورك تايمز" الأميركية - 28 أيلول/سبتمبر 2022
قبل عامٍ بالتحديد، اجتاحت موجة اضطرابات وأعمال شغب واسعة مدن ومحافظات إيرانية هي الأضخم في العقود الأخيرة، حيث عمد فيها مثيرو الشغب إلى الإخلال بالأمن، وتخريب الممتلكات العامة والاعتداء على المدنيين وقوات الأمن في البلاد، ما أدّى إلى سقوط ضحايا وجرحى، وذلك بذريعة الاحتجاج على النظام والسلطة و"الدفاع عن الحريات"، وخاصةً النسوية منها.
حينها، شكّلت وفاة الشابة مهسا أميني، الشرارة التي جرى استغلالها لإشعال أعمال الشغب، وذلك بعد نشر ادّعاءات بأنّ شرطة الأخلاق الإيرانية اعتدت عليها بالضرب وتسببت في وفاتها "لعدم ارتدائها الحجاب"، لتندلع بعدها الاضطرابات. في حين أنّ "همجية" أعمال الشغب، واتخاذها المنحى التخريبي آنذاك، جعل الأمر يأخذ طابع "الثورات الملونة" التي غزت قبل ذلك دول عديدة، على غرار ما حدث في سوريا ومصر وغيرها من دول "الربيع العربي".
السلطات السياسية والأمنية الإيرانية اتّخذت قراراً حينذاك بمواجهة واحتواء هذه الاضطرابات في أسرع قتٍ ممكن، مؤكّدةً أنّ "إيران ليست مكاناً للثورات الملونة"، بناءً على إدراكها لواقع يشير إلى أيادٍ خارجية استغلت حادثة وفاة أميني، من أجل إشعال البلاد وإضعافها.
الكلام عن التدخل الخارجي لا يأتي هنا في سياق الحديث الدائم والمعروف عن "مؤامرة خارجية"، وتصويب أصابع الاتهام إلى الخارج فقط من باب التصويب، بل هذا الحديث يأتي بناءً على تحقيقات ووقائع، أظهرت ذلك، فيما كان يُخطط لمثل هذه الأعمال من قبل اندلاع الأحداث. وقد كشف جهاز الاستخبارات في حرس الثورة انعفاد مؤتمر التنسيق بين "السي آي أي" والعناصر المعادين للثورة الإسلاميّة في أيّار/مايو من العام 2022.
وتناول هذا المؤتمر قضيّة تنظيم احتجاجات خلال الأشهر القادمة، وجرى طرح أساليب عمل، منها تشكيل غرفة عمليّات خاصّة بالحرب المحليّة ضدّ النظام، وعرض مخططات تضمن قضيّة المحافظة على الأشخاص والقادة الميدانيّين وكذلك أساليب لتصنيع المواد المتفجّرة، وذلك في محاولة لإلهاء إيران بموجة من الأزمات الداخليّة.
لكنّ إيران نجحت في احتواء هذا المخطط والقضاء على التهديدات الأمنية التي اجتاحت البلاد، وذلك ضمن استراتيجية داخلية، وأخرى خارجية، لم تنتهِ مع انتهاء الاضطرابات، بل ما زالت مستمرة حتى اللحظة. وفيما يلي سنجد عرضاً للخطوات العملية التي اتبعتها طهران خلال الاضطرابات وطوال هذا العام ضمن هدفها لتثبيت الأمن في البلاد.
استراتيجية كشف المؤامرة
بدايةً، ومع الانتشار الواسع لسردية وفاة أميني على أيدي "شرطة الأخلاق" في مواقع التواصل الاجتماعي التي كان لها دور كبير في تأجيج الأزمة، سرعان ما نشرت الشرطة الإيرانية فيديو مصور دحض كل تلك الادّعاءات. فقد وثّقت كاميرات المراقبة اللحظات الأخيرة للشابة أميني في مركز الشرطة. وأثبتت اللقطات عدم تعرّض أميني، البالغة من العمر 22 عاماً، لأي عنف أو إيذاء جسدي. وبحسب الطب الشرعي الإيراني، فإنّ سبب وفاتها هو طبي بحت، إذ أُصيبت بنقص الأوكسيجين وتضرّر بالدماغ نتيجة مرض سابق عانت منه.
ومع توسّع أعمال الشغب في المحافظات والمدن، استنفرت السلطات الإيرانية كل الطاقات الأمنية والقدرات والوسائل والإمكانات اللوجستية والاستخباراتية لمواجهة أعمال العنف، إذ عملت قوى الأمن، على الرغم من صعوبة الموقف، واختلاط الأمور في الميدان، على الاحتواء والفصل بين المحتجين السلميين الذي كانت لديهم مطالب سياسية واقتصادية محقة، وبين المخرّبين المدفوعين لتنفيذ أجندات معادية داخلية وخارجية لزعزعة استقرار البلاد، وألقت القبض عليهم.
كما اعتمدت قوى الأمن الإيرانية سياسة الكشف الاستخباري عن هوية المخربين، ومحاسبتهم علناً، بحيث وُجّهت أكثر من ألف تهمة مرتبطة بأعمال الشغب، وجرى اعتقال أعداد كبيرة من أعضاء من منظمة "مجاهدي خلق" المعارضة، ومن الأحزاب الكردية المناهضة لطهران، ومن دول أجنبية، وأيضاً من "الجماعات التكفيرية"، وغيرها من شبكات التجسس، إضافةً إلى كشف وإحباط خطوط الإمدادات اللوجستية لهم من أسلحة وأموال ومعلومات.
إضافةً إلى ذلك، عمدت السلطات الإيرانية إعلان التدخل الدولي في الاحتجاجات وتبيين دوافعها، وإظهار ذلك للمواطنين الإيرانيين بالدلائل القاطعة، إذ كشفت تحقيقات استخبارات حرس الثورة الإيراني أنّ استخبارات نحو 20 دولة شاركت في أحداث الشغب، التي شهدتها البلاد. وقد اعتقل بناءً على هذه التحقيقات أعداد كبيرة من العملاء والجواسيس التابعين لدول غربية.
ومن بين الأطراف التي ساهمت في الأحداث هي "الولايات المتحدة الأميركية وبريطانيا وفرنسا وألمانيا والكيان الإسرائيلي وكندا وبلجيكا والنمسا وأستراليا وأيسلندا وإيطاليا والنرويج والسعودية والبحرين والإمارات". فبعد فشل هذه الجهات في محاربة إيران في الساحة الدولية، وإقرارهم في فشل العقوبات في إضعافها وإيقاف صعودها كدولة مؤثرة في المنطقة، لجأت إلى تأليب الشارع الإيراني على النظام والإخلال بالأمن وإلهائها بالأزمات والاضطرابات الداخلية.
وقد سخّرت الدول الأجنبية كافة الطاقات لديها بما في ذلك المالية واللوجستية والاستخباراتية، والأهم من كل ذلك، الوسائل الإعلامية والإلكترونية، التي كان لها دور كبير في صبّ الزيت على النار وتوجيه أعمال الشغب من خلال نشر الأخبار المضللة، وخلق بروباغندا إعلامية ضد النظام الإيراني، بحيث استأجروا حسابات لشخصيات مشهورة لديها ملايين المتابعات لفترة زمنية لنشر معلومات كاذبة أو موجهة ضد إيران، ما دفع الأمن الإيراني إلى وضع قيود موقتة على مواقع التواصل للمحافظة على أمن البلد وأمن الشعب.
وأكّد بيان مشترك لوزارة الأمن وحرس الثورة بشأن الأحداث أنّ "العدو سعى، خلال الأشهر الأخيرة، لتهيئة الأرضية للشغب من خلال صرف ميزانية مضاعفة واعتماد وسائل متنوعة".
وباعتراف من المنفذين، نقلت صحيفة "معاريف" الإسرائيلية، عن إلهام يعقوبيان، يهودية الأصل، قولها إنّها نسّقت من الولايات المتحدة "أعمال انتفاضة النسوة" في إيران.
كذلك، أظهر مقطع فيديو المحرضة المدعومة من وكالة المخابرات المركزية، مسيح علي نجاد، وهي تشرح عن كيفية تحريضها على العنف في إيران، وحتى استخدام أمهات الضحايا لإثارة المزيد من أعمال الشغب في البلادـ، وجنيها للمال مقابل ذلك.
وفي التفاصيل أيضاً، كشفت وكالة "فارس" الإيرانية، ومن خلال استعراض أداء 5 وسائل إعلام معادية للجمهورية الإسلامية، وصفحاتها على الإنترنت، أنّ تلك الوسائل نشرت أكثر من 38 ألف كذبة بشأن الأحداث الأخيرة في إيران خلال الفترة الممتدة من 14 أيلول/سبتمبر لغاية 31 تشرين الأول/أكتوبر 2022.
وبعد كشف كل تلك الحقائق، ونتيجة جهود جبارة في الميدان، أعلنت إيران عن انتهاء الاحتجاجات والسيطرة بالكامل على الأوضاع في البلاد، واعتقال مثيري الشغب وتسليمهم إلى السلطات القضائية، كما فرضت عقوبات على دول وكيانات أوروبية شاركت في دعم أعمال الشغب، مؤكّدةً أنّها ستُفشل العدو في كل مرة. وقد أتى ذلك بالتزامن مع خروج مظاهرات ومسيرات سلمية في الكثير من المحافظات دعماً للنظام ورفضاً لأعمال الشغب.
استراتيجية استعراض القوة
مواجهة إيران لمثل هذه الحرب الدولية التي خاضتها داخل البلاد لم تنتهِ باحتواء الاحتجاجات وإسقاط الرهانات، بل لا تزال هذه الدولة تجابه المخططات الغربية لإضعافها عن طريق استراتيجية تثبيت معادلات الردع وإظهار القوة في الساحة العالمية، وأيضاً من خلال إعادة إحياء علاقاتها الدبلوماسية مع دول الجوار.
وقد استطاعت إيران من تحقيق ذلك على الرغم من العقوبات التي فُرضت عليها، والتي لم يكن لها تأثير يُذكر، خصوصاً وأنّ هذه البلاد اعتادت على الالتفاف على العقوبات المفروضة عليها منذ أكثر من 40 سنة.
فمنذ احتواء الاحتجاجات، عمدت إيران على استعراض منظومات الأسلحة التي تملكها من صواريخ ومسيرات وأسلحة وعتاد، وتنظيم مناورات دورية لها، مؤكّدةً أنّها "تتحوّل من مستورد للأسلحة، إلى دولة تصنّع نحو 90% من احتياجاتها العسكرية".
وخلال الأشهر الأخيرة، أزاحت إيران الستار عن عدّة صواريخ، منها أول صاروخ بحري بعيد المدى يستخدم الذكاء الاصطناعي، وعن الصاروخ فرط الصوتي "فتاح" الذي يتميز بسرعة 13 ماخاً، وأيضاً صاروخ بالستي جديد أطلقت عليه اسم "خيبر".
وكذلك، أجرت عدّة مناورات منها مناورات "ذو الفقار"، ومناورات الدفاع الجوي "المدافعون عن سماء الولاية 1401"، إضافةً إلى مناورات لجميع أنواع أنظمة الحرب الإلكترونية، وكذلك مناوراتٍ بحرية لحماية أمن الخليج، ومناورات "فدائيو الولاية" الـ11 لسلاح الجو.
وقد أكّد المسؤولون الإيرانيون أنّ كل هذه المناورات واستعراض الأسلحة هي "تحذير للأعداء، كي يطّلعوا عليها، حتى لا ينسوها". ويمكن القول إنّ هذه الرسائل تلقّفها الغرب وكيان الاحتلال الإسرائيلي بشكل جيد، خصوصاً مع الحديث المتزايد في الإعلام الإسرائيلي والغربي عن استهداف النووي الإيراني.
وفي هذا السياق، قال الإعلام الإسرائيلي إنّ إيران تحولت إلى قوة عظمى بالسلاح. وتحدّثت صحيفة "جيروزاليم بوست" الإسرائيلية، عمّا تُشكّله الصواريخ الإيرانية من تهديدٍ لأمن "إسرائيل" والولايات المتحدة الأميركية، إذ إنّهم بذلك، يوصلون رسالة من أجل ردع "إسرائيل" وغيرها من الدول عن أي مغامرة.
وبالتوازي مع استعراضها لقدراتها العسكرية، سعت إيران إلى تحسين وتوطيد علاقاتها مع دول الجوار، في سياق سياسة "حسن الجوار"، التي تنتهجها إدارة الرئيس إبراهيم رئيسي. وكانت خطوة استئناف العلاقات مع السعودية من أبرز ما جرى تحقيقه في هذا الإطار، إضافةً إلى تعزيز علاقات طهران مع قطر وعمان والكويت والإمارات، ما يُساهم بشكل كبير في تعزيز الاستقرار في إيران والمنطقة.
مجريات الأحداث هذه كلّها أثبتت قدرة إيران على مواجهة التدخلات الخارجية ومنع "الثورات الملونة" والحفاظ على أمن البلاد بكل القدرات والإمكانيات المتاحة، وبخطواتٍ ملموسة أمنياً وسياسياً ودبلوماسياً، بحيث إنّ طهران لم تكتفِ بكبح الاضطرابات الأمنية، بل راكمت فوق إنجازاتها الأمنية في تلك الفترة، قاعدة عسكرية وعلاقات دبلوماسية من أجل منع تكرار السيناريو ذاته في المستقبل.