ذكرى انفجار مرفأ بيروت.. مليارات الـNGOs صبّت في مصلحة السفارة الأميركية

بعد عامين على انفجار مرفأ بيروت، اختفت مليارات دولارات الـ NGOs، التي تلقّتها من أجل توزيعها على المتضررين من أهالي بيروت. لكنّ الأموال المرسَلة لم تكن لهذا الهدف فقط، بل كشف الأميركيون أهدافاً سياسية أرادوا تحقيقها، من خلالها، تحت عناوين انسانية.

  • فرَّقت جمعيات الـ NGOs بين المتضررين ضمن المبنى الواحد (أرشيف)
    فرَّقت جمعيات الـ NGOs بين المتضررين ضمن المبنى الواحد (أرشيف)

في 4 آب/أغسطس 2020، وقع انفجار مرفأ بيروت. تدمّرت مناطق. وقعت الأبنية الإسمنتية على قاطنيها.

أمطرت في بيروت وجوهاً لشهداء، ومئات القبور حُفرت دفعةً واحدة. مع الوقت، كُشف مصير كل المفقودين، أمّا مصير التحقيق الذي اختُطِف، على مراحل، فما زال مجهولاً، ويتأرجح بين آلام اللبنانيين وآمالهم. واليوم، بعد عامين على ثالث أقوى انفجار عرفه التاريخ، هدأت الشوارع، لكن أجزاء من "تركة" الانفجار لا تزال مجمَّعة، إلى جانب بعض المباني التي طواها عصف الانفجار أرضاً.

الحجار الصلفة يلبسها الوجوم، مثل وجوه أهالي المناطق المتضررة. بعضهم تلقى أموالاً من الجيش لم تكفِ، مع غلاء الأسعار، لتصليح أمور بدائية. وآخرون تلقوا من منظمات غيرِ حكومية دفعات مالية، وُعدوا بعدها بأن يأتي مثلها، لكن "لا حياة لمن تنادي".

لم يعد ينتظر منظماتِ الـ NGOs أحد. اختفت مساعداتها، كما اختفى أثرها في الطريق الذي افترشه عناصرها أسابيعَ بعد يوم الانفجار. يومها كانت الأمور حامية، والمتطوعون كانوا متحمّسين للعمل. سريعاً، نبتت بين 4 آب/أغسطس و4 أيلول/سبتمبر، بحسب مصادر رسمية لبنانية، أكثر من 300 منظمة غير حكومية جديدة.

لكن هذه المنظمات الـ 300 جاءت وصوَّرت آثار الانفجار داخل البيوت، إلّا أنها فرَّقت، سياسياً، بحسب بعض أهالي منطقة الجميزة، بين جيران المبنى الواحد، وبين حيٍّ وآخر. حصَّل بعضهم دعماً لا بأس به، وبقي آخرون ينتظرون مَن يُعينهم على أمور أساسية في منازلهم: براد وغاز وستائر لشبابيك مصلَّحة على عجَل. 

وصول ماكرون.. والعقوبات
عندما وصل الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون إلى بيروت، وعد بإيصال المساعدات للمنظمات غير الحكومية، لأن السياسيين "خرجوا من دائرة ثقتهم". هكذا قال وقتها الكثيرون، واستبشر خيراً. وكعادة ما يحدث مع اللبنانيين، لم تصل "اللقمة للتم". كانت الأرقام التي حصَّلتها المنظمات خيالية، بحيث جمع المؤتمر الدولي للمانحين، والذي نظّمته فرنسا العام الماضي، برعاية ماكرون، أكثر من 370 مليون دولار أميركي.

يومها، ومرةً أخرى، شدّد الفرنسيون والأميركيون على أن ترسَل هذه الأموال "غير المشروطة"، حصراً، الى المنظمات غير الحكومية. لم يحصل، منذ وقتها، أن أكد أحد، على نحو رسمي أو غير رسمي، وصول هذه الدولارات الى جيوب اللبنانيين. كما لم يؤكد أحد إن كان وصل جزء منها، أو لم يصل أساساً. أسئلةٌ كثيرة طُرحت بشأن هذه القضيةـ، بعد رؤية بعض الأمور على حالها في الأحياء الفقيرة. كما أُعيد التذكير بما جرى عام 2018، حين حُجب عن لبنان، نحو 11 مليار دولار من مساعدات التمويل الدولي والطويل الأجل، بسبب اشتراطه سلسلةً من الإصلاحات!  

ومثلما حدث عام 2018، بدأ النكد السياسي بعد إقرار المساعدات. هدد ماكرون بالعقوبات، ومثله فعل المتحدث باسم الخارجية الأميركية، نيد برايس، إذ قال إن الوضع في لبنان يُعَدّ "فشلاً جماعياً للطبقة السياسية، يتحمّل مسؤوليته من يُسَمّون أنفسهم قادةً"، مؤكداً أن لدى بلاده "عدة وسائل لمحاسبة المسؤولين عن معاناة اللبنانيين، إحداها العقوبات".

مذ ذلك الحين، لاحقت العقوبات الأميركية شخصياتٍ تعمل ضمن الإطار التنظيمي لحزب الله، أو "مقربين منه"، بحسب وزارة الخزانة الأميركية. لم تكن هذه الخطوات مفاجئة، إذ بعد "مؤتمر المانحين"، اتهم رئيس لجنة الشؤون الخارجية في مجلس الشيوخ الأميركي، الديمقراطي بوب مينينديز، وكبير الجمهوريين في اللجنة، جيم ريش، السياسيين في لبنان بالإخفاق في التعاون مع المجتمع الدولي، مشيرين الى أن ساسة لبنان "أعطوا أولوية لمصالحهم الضيقة، وخضعوا لحزب الله المدعوم إيرانياً".

اليوم، قال ماكرون إنه لن يسمح بأن ينهار  للبنان، لكن التمنيات لا تؤتي أُكُلها. بعد عامين، تبيّن أن فساد بعض هذه المنظمات يتشابه مع فساد السياسيين، إن لم يَزِدْ عليه. أين اختفت 10 مليارات دولار، كشف عنها مساعد وزير الخارجية الأميركي السابق، ديفيد هيل، سابقاً؟ وقتها قال، ضمن جلسة استماع أمام لجنة الشؤون الخارجية في مجلس الشيوخ الأميركي، إن الإدارة الأميركية في عهد الرئيس دونالد ترامب كانت ثاني أكبر متبرّع في إثر انفجار المرفأ.

وعقب حديثه، كثرت الأسئلة الموجَّهة إليه ضمن مجلس الشيوخ بشأن فائدة هذه المليارات وفعاليتها، في حملة الضغوط القصوى، ومواجهة إيران في المنطقة، وجهود إضعاف نفوذ حزب الله في لبنان. كرّر هيل الحديث في أجوبته عن استفادة الولايات المتحدة من هذا التمويل "من أجل الحدّ من نفوذ حزب الله في لبنان، ومنعه من استغلال الظروف الحالية في زيادة نفوذه".

طبعاً، لم ينبسْ أي من الـ NGOs ببنت شفة عن كلام هيل، وعن الدعم الذي تتلقاه هذه المنظمات، وعن الأهداف المخفية تحت أطر إنسانية. لكن، في الوقت نفسه، شُنت حملات إعلامية ضدها، تتهمها بالعمل لخدمة مصالح السفارة الأميركية، وكشفت عدداً من أرقامها غير المعلنة سابقاً. فمنذ عام 2005، صرفت "USAID" في لبنان، بحسب موقعها، نحو 20 مليون دولار على المنظمات. وارتفع الرقم بالتدريج ليصل عام 2019 الى 733 مليون دولار. وبعد الانفجار، وصل الرقم، بحسب هيل، الى عشرة مليارات، تحت عنوان "المساعدات الإنسانية".

وبعدها بعام، ولكثرة الحديث عن مليارات الدولارات غير المحددة وجهة إنفاقها، خصَّص وفد أميركي زيارةً للتقصي والسؤال، عبر وزارة الداخلية، عن نفقات برامج هذه المنظمات على القضايا الإنسانية، والتحقق من أرقامها. لكن، واقعاً، لا إمكان لدولة منهارة، في مختلف الأصعدة، أن تتقصّى قطاعاً مدعوماً، بقوة، خارجياً. والأهم،لم تكن الزيارة الرسمية للوفد لتكون، لو كانت الأرقام المهولة تترجم على الأرض، كما هو مخطَّط لها.

8000 منظمة فاعلة في لبنان، تمتلك تمويلاً وطاقات تفوق ما يحتاج إليه بلد بهذا الحجم. وعلى الرغم من ذلك، فإن الوضع من سيئ إلى أسوأ. في العام الماضي، أظهر تقرير لليونسف أن 68% من العائلات المتضررة لم تحصل على الرعاية الصحيّة أو الأدوية منذ وقوع الانفجار. وبحسب التقرير، فإن نصف العائلات، التي يصل عددها إلى 1178 عائلة، لا تزال أوضاع بيوتها على ما هي عليه بعد الانفجار.

واليوم، لم يصدر تقرير يشير الى تحسن النِّسَب، ولا المشاهد على الأرض تشير الى أن الوضع المؤسف، تغير على نحو جذري. الفساد استشرى بين المنظمات، على كثرة الأموال المرسَلة، لكن الأمور أخذت منحىً سياسياً منذ اللحظة الأولى للانفجار، الذي أضحى الملعب المفضّل للأميركيين، الذين يُتقنون فنون تحوير الكوارث، لتصب في خدمتهم. 

 

اخترنا لك