خطة أوروبا لتجنب أزمة الطاقة الشتوية: لا مفرّ من روسيا
لا شكّ في أن العملية العسكرية الروسية في أوكرانيا، وما تبعها من شد حبال في ملف الغاز، أثبتا أن دخول شركات الغاز الروسية لأوروبا، طوال الأعوام الماضية، كان خطوة جيوبوليتيكية مهمة للرئيس فلاديمير بوتين.
بعد امتلاك احتياطيات من الغاز تعادل 78% من سعة التخزين، وفقاً لـ"Gas Infrastructure Europe"، يسعى الاتحاد الأوروبي للوصول إلى 80% في 1 تشرين الثاني/نوفمبر المقبل.
لكنّ الأمور تتّخذ منحىً صعباً أكثر فأكثر، إذ من غير الواضح إذا كانت كميات الغاز ستستمر في الوصول من روسيا. هذا الحديث بات واقعاً، بعد أن أغلقت "غازبروم" خط الأنابيب الذي يربط روسيا بألمانيا، أمس، بعد ساعات فقط من إعلان مجموعة الدول الصناعية السبع أنها ستفرض سقفاً سعرياً على النفط الروسي. ردّت الشركة سريعاً بأنه تمّ اكتشاف تسرّب نفطي، ولن يعاد فتح خط الأنابيب إلى أجَل غير مسمى. الاضطراب والنقص المطوّلان يمكن أن يؤديا إلى التقنين المكثف، ومن المرجح أن يدفعا اقتصاد القارة، المتعثّر فعلاً، إلى الركود.
"خطوة غازبروم ليست مفاجئة"، غرَّد رئيس المجلس الأوروبي، شارل ميشيل، الذي أكد أيضاً "الإسراع نحو الاستقلال في مجال الطاقة".
Gazprom’s move is sadly no surprise.
— Charles Michel (@CharlesMichel) September 2, 2022
Use of gas as a weapon will not change the resolve of the EU.
We will accelerate our path towards energy independence.
Our duty is to protect our citizens and support the freedom of #Ukraine @ZelenskyyUa
عنوان يبدو غير منطقيّ، إذ إن بحث المفوضية الأوروبية عن حلول، للحدّ من أسعار الطاقة وخفض الطلب على الكهرباء، يتمثّل بزيادة استيراد الغاز الطبيعي المسال من بلدان متعدّدة: قطر، الولايات المتحدة، نيجيريا، مصر، إيران، العراق، تركيا والاحتلال الإسرائيلي. لكن كل هذه الجهات، من دون استثناء، تحتاج إلى عدة أعوام من أجل زيادة صادراتها إلى أوروبا.
وفوق عامل الوقت، الذي لم يعد، بحسب المنطق، سريعاً، تحتمل هذه الخيارات نفسها تحدياتٍ تتعلّق إمّا بكثرة الاستهلاك، وإمّا بضعف الإنتاج، وإمّا بوجود تحديات سياسية تحول دون تصدير الغاز، وخصوصاً أن جزءاً لا يُستهان به من هذه الدول يقع في مناطق قد تتعرض لخضَّات أمنية، وهو ما قد يؤثّر في إمدادات الطاقة في أيّ لحظة توتر.
تحدٍّ آخر، هو أن تكلفة الغاز الطبيعي المسال أعلى من تكلفة غاز الأنابيب. وبالتالي، فإن اعتماده خياراً أساسياً يعني زيادة في الدفوعات، بالتوازي مع معاناة كل دول العالم من موجة تضخم بدأت عام 2019 مع وصول "كوفيد 19".
ألمانيا هي المتضرر الأكبر. وعلى الرغم من أن وزير الاقتصاد الألماني، روبرت هابيك، قال إن الاستعدادات اللازمة لهذا الشتاء بدأت، فإن برلين لا تملك حالياً أي محطة للغاز المسال، بل تخطّط لبناء محطتين في وقت اضطّرت إلى إيقاف مشروع خط أنابيب "نورد ستريم 2"، الذي كان من المفترض أن يورد 55 مليار متر مكعب من الغاز الروسي في هذا العام.
محلّلو شركة "وود ماكنزي" للأبحاث حذَّروا، أمس، من أنه إذا ظل خط الأنابيب مغلقاً، وتبيّن أن الشتاء في أوروبا سيكون بارداً بشدة، فقد تنخفض احتياطيات الطاقة في القارة إلى مستويات خطرة، الأمر الذي يفرض قيوداً صارمة على استخدام الغاز الطبيعي والكهرباء، وبالتالي سيؤثر في أكثر من صعيد: من توليد الطاقة، الذي يأخذ من "كعكة" الطاقة نسبة 32%، إلى الصناعة (26%)، و38% للمباني السكنية والتجارية.
هذا يعاكس تماماً تصريح المفوض الأوروبي لشؤون الاقتصاد، باولو جنتلوني، الذي أكَّد أن الاتحاد "على استعداد جيد" في حال الوقف الكامل لإمدادات الغاز الروسي، بفضل التخزين وإجراءات اقتصاد الطاقة.
في 3 آذار/مارس 2022، أي بعد بدء الحرب بنحو شهر، نشرت وكالة الطاقة الدولية خطةً من عشر نقاط لتخفيف اعتماد الاتحاد الأوروبي على الغاز الروسي. لكن، بعدها بشهر أيضاً، قال مسؤول السياسة الخارجية في الاتحاد الأوروبي، جوزيب بوريل، إن الاتحاد كان ولا يزال يدفع إلى روسيا ما يقارب مليار دولار يومياً في مقابل الغاز والفحم والنفط. وفي أثناء لقائه سفراء الاتحاد، أضاف بوريل: "لقد منحنا أوكرانيا مليار يورو. قد يبدو الرقم كبيراً، لكن مليار يورو هو ما ندفعه إلى بوتين يومياً في مقابل الطاقة التي يوفّرها لنا".
عملية عسكرية روسية في أوكرانيا، موّل جزءاً منها، بطريقةٍ غير مباشرة، الاتحادُ الأوروبي نفسه، الذي اعتمد تاريخياً على روسيا في نحو 40% من غازها الطبيعي، الذي يتمّ تسليم معظمه عبر خطوط أنابيب. منها "يامال"، الذي يعبر بيلاروسيا وبولندا إلى ألمانيا، ونورد ستريم 1، الذي يمتد مباشرة إلى ألمانيا، وخطط أنابيب عبر أوكرانيا.
لا تحصل كلّ البلدان على الغاز مباشرةً من روسيا، لكن إذا تلقت دولٌ، مثل ألمانيا، أكبر مشترٍ للغاز الروسي في أوروبا، كمياتٍ أقلَّ، فيجب عليها سد الفجوة من أماكن أخرى. على سبيل المثال، من النرويج، التي لها تأثير غير مباشر في الغاز المتاح للبلدان الأخرى. ونتيجةً لذلك، يمكن أن تتسبب التغيرات في الإمدادات الروسية بتقلّبات أسعار الغاز في بريطانيا، كما هي الحال في سائر أوروبا، على الرغم من أن بريطانيا تحصل عادةً على أقل من 4% من غازها من روسيا. لكن انخفاض المعروض الروسي يعني أن كميات أقل يمكن أن تكون متاحة من أكبر مورّد لها؛ أي النرويج.
منذ عام 2000، طرحت أوروبا (طرحها الجديد نفسه) عنوان ضرورة السعي لتنويع مصادر الغاز المستوردة، وعدم الاعتماد على الغاز الروسي فقط. وقتها، كانت أوروبا تستورد 41% من غازها من روسيا وتُنتج 59% من حاجتها، معظمها من بريطانيا وهولندا. لم تكن شبكة خطوط الأنابيب موجودة كما هي حالياً. اليوم، بعد 22 عاماً، تستورد أوروبا ما يقارب 46% من حاجتها من الغاز من روسيا، وما زالت تسعى لتنويع مصادر الطاقة، كي لا تبقى الطاقة سلاحاً تستخدمه موسكو عندما تحتاج إلى ذلك.
الاعتماد على روسيا كان الخيار الأكثر منطقية بالنسبة إلى أوروبا، إذ تملك موسكو، بحسب أرقام عام 2020، أكبر احتياط من الغاز الطبيعي بـ4.37 تريليونات متر مكّعب، أي ما يعادل 19.9% من مجموع الاحتياطات المؤكدة في العالم، وهي قريبة جغرافياً، ومرتبطة بأوروبا بخطوط أنابيب، الأمر الذي يعني سهولة في نقل الغاز، وتكلفة أقل من الغاز المسال المنقول عبر البحر أو البر.
هذا الوضع تدرك أهميته روسيا، وهو ما وضعها في موقع متقدم في قطاع الطاقة. ورأت، منذ عام 2014، بعد استعادة جزيرة القرم، أن اعتماد أوروبا على الغاز الروسي ضرورة جيوبوليتيكية لموسكو، وهذا ما تبيّن لواشنطن أيضاً. وعليه، عارضت إنشاء خط أنابيب "نورد ستريم 1".
ومنذ بدء العملية العسكرية الروسية في أوكرانيا، صعد إلى السطح الحديث عن التقاطع الكبير بين الجيوبوليتيك وأمن الطاقة. النتيجة كانت تصبّ لمصلحة بوتين، باعتبار أن الغاز بات السلاح الأقوى في وجوه الأوروبيين، الذين ظنوا أن فتح الباب لشركات الغاز الروسية طوال الأعوام الماضية سيكون بتكلفة جيوبوليتيكية قليلة أو معدومة.