حكاية الشهيد "أبو عطايا".. مهندس المقاومة الفلسطينية
أبرز المحطات النضالية للشهيد القائد جمال أبو سمهدانة، "أبو عطايا"، من بيته البسيط في مدينة رفح جنوبي قطاع غزة، وصولاً إلى لحظة استشهاده عام 2006.
قال الشهيد القائد جمال أبو سمهدانة، "أبو عطايا"، في إحدى المقابلات الصحافية النادرة "أنا، يشرّفني أن أكون عدوّاً للاحتلال الإسرائيلي.. وأشرف موقع ممكن أن يصل إليه أي فلسطيني هو أن يكون مقاتلاً، وأن يحافظ على شعبه ويحميه، ويحافظ على مقدساته، ويضحي بكل ما يملك من أجل حرية شعبه".
هذا النضال ليس وليد اللحظة، بل بدأ من بيت بسيط في مدينة رفح جنوبي قطاع غزة، لم تتوقف فصول المقاومة فيه يوماً، كما لم يمر يوم في تاريخه من دون فعل نضالي.
من البيت المقاوم، تشكّلت شخصية الشهيد "أبو عطايا" العسكريّة النضاليّة الخاصة به، فكان أخوه الشهيد صقر أبو سمهدانة أحد فدائيّي القطاع الغربي لقوات العاصفة، التابعة لحركة فتح، والتحق لاحقاً بقوات الثورة الفلسطينية في بيروت، واستُشهد في لبنان عام 1975 دفاعاً عن الثورة الفلسطينية.
كما عمل أخوه الشهيد طارق أبو سمهدانة، ضمن كوادر العمل العسكريّ لحركة فتح، خلال الانتفاضة الأولى. واستُشهد في عام 1992.
وُلد جمال أبو سمهدانة عام 1963 في مخيم المغازي للاجئين، على مقربة من دير البلح وسط قطاع غزة، حيث أمضى طفولته.
الشهيد "أبو عطايا" شقّ طريقه النضالي الخاص، في مرحلة عمرية مبكّرة، عام 1981، بحيث بدأ العمل ضمن الأطر الطلابيّة والشعبيّة لحركة فتح في رفح، فنظّم المظاهرات والمواجهات اليوميّة مع قوات الاحتلال الصهيوني، وتعرّض في إثرها لتجربة اعتقال مبكّرة استمرت أربعة شهور، في سجون الاحتلال، عام 1982.
شارك أبو سمهدانة في الفعاليات الشعبية، التي انطلقت في قطاع غزة، قبل أن يغادره إلى مصر، ومن هناك إلى دمشق، ثم المغرب فتونس، حيث بقي عامين. وانتقل بعد ذلك إلى ألمانيا، حيث التحق بالكلية العسكرية وتخرّج منها "مهندساً للدبابات" عام 1989، قبل أن ينتقل إلى الجزائر، ثم إلى بغداد.
النقطة الفارقة في حياة جمال أبو سمهدانة كانت عام 1993، حين التقى الشهيد فتحي الشقاقي في الجزائر. وفي هذه الفترة، أي قبل عودته إلى فلسطين، وُلدت بذور فكرة تشكيل لجان المقاومة الشعبية في فلسطين، وذراعها العسكرية، ألوية الناصر صلاح الدين.
العودة إلى فلسطين
لدى وصوله إلى فلسطين عام 1995، أكمل الشهيد جمال أبو سمهدانة مشواره، بحيث عمل بصورة سرية مع المجموعات الأولى للقوى الإسلامية المجاهدة، "قسم"، الجناح العسكري لحركة الجهاد الإسلامي في فلسطين، والذي بات يُعرَف بسرايا القدس، مع رفيقه الشهيد محمد الشيخ خليل، وهو قائد عسكري بارز في الحركة.
وفي عام 1996، فاز جمال أبو سمهدانة بأمانة سرّ حركة فتح في إقليم رفح، حيث تمتّع بشعبية عالية جداً في الأوسط الشعبية في الحركة، وكان محبوباً في المدينة.
انتفاضة الأقصى عام 2000
بعد ذلك في عام 2000، شهدت رفح بواكير تشكيل حالة عسكرية مقاومة، قادها عدد من المناضلين، اتّسعت لمختلف الخلفيّات التنظيميّة، وضمّت أسماء كجمال أبو سمهدانة، ورائد العطار، ومحمد أبو شمالة، ومحمد الشيخ خليل، ومحمد عبد العال، وخالد منصور، وخالد عواجة، وجمال عبد الرازق.
جمع التاريخ النضالي والرغبة في المقاومة هذه الأسماء، وعمل أصحابها من دون إطار تنظيمي، ونظّموا أنفسهم ضمن مجموعات صغيرة مركَّزة، تمتلك بضع بنادق كلاشينكوف قديمة.
واهتمّت المجموعة بالعمليات النوعية التي توزّعت بين إطلاق النار على سيارات المستوطنين، واستهداف الحواجز، على نحو عفويّ، ووفق تنظيم عسكري بسيط للغاية وسري تماماً. وصاحب ذلك تطوّر في الأداء العسكريِّ للمجموعة.
ومع اندلاع انتفاضة الأقصى، بادر الشهداء جمال أبو سمهدانة، وخالد عواجة، ومحمد الشيخ خليل، مع عددٍ من الكوادر المسلحة، كعوض النيرب، وأبي إبراهيم القيسي، إلى اقتحام مبنى بلدية رفح في 28 أيلول/سبتمبر 2000، وتمكّنوا من الاستيلاء على عددٍ من الجرافات. وقاموا بفتح نحو 30 ثغرة اشتباكٍ عند طول السلك الفاصل بين جنوبي قطاع غزة والداخل المحتل.
كما عمل أبو سمهدانة ورفاقه عبد الكريم القوقا، وعماد حماد، وأبو جمال الشاعر، وأبو إبراهيم القيسي، على تصنيع الأكواع المتفجرة والقنابل اليدوية والعبوات البسيطة، وبدأوا عملاً عفوياً باستهداف "الجيبات" الإسرائيلية.
بالتزامن مع هذه الأحداث، لم يَغِب العنصر الشعبيُّ والتنظيميُّ عن حياة جمال أبو سمهدانة، فسخّر بيت أبيه الحاج عطايا مكتباً لاستقطاب العناصر الجدد، وتجنيدهم للعمل المنظّم ضمن الانتفاضة، قبل تشكيل لجان المقاومة الشعبية.
كما تمّ تطوير تكتيكٍ تقوم به مجموعات الأشبال عبر تنبيه مجسمات الاستشعار الأمنية الإلكترونية على طول السلك الفاصل لاستدراج "الجيبات" الصهيونية، بينما تتأهّب الألوية لمباغتتها، لتشتبك بنيران بنادق الكلاشينكوف والبنادق القديمة.
ومع الانتفاضة، انطلقت لجان المقاومة الشعبية لتحرير فلسطين بقيادة "أبو عطايا"، وباشرت المجاميع المشكِّلة للّجان إلى وضع الخطط العسكرية، والتي أفضت إلى تشكيل ألوية الناصر صلاح الدين، الجناح العسكري للّجان الشعبية.
كما صاحب ذلك تطويرٌ في منظومة الأسلحة، وكان لجمال أبو سمهدانة بصمة واضحة في هذا الشأن، فوظّف خبراته العسكرية في سلاح الدروع، وكان أول من أدخل سلاح القاذف المُضادّ للدروع (RPG7) لقطاع غزة.
ألوية الناصر صلاح الدين
واصلت الألوية تنفيذ العمليات النوعيّة خلال الانتفاضة. ففي فجر 18 كانون الثاني/يناير 2000، نفّذ الشهيد بهاء الدّين السعيد أوّل عملية اقتحامٍ لمستوطنة "كفار داروم"، الواقعة في الطريق الواصل بين دير البلح ورفح. حينها، أسفرت العملية عن مقتل 4 إسرائيليين واستشهاد بهاء الدّين. وكان جمال أبو سمهدانة حاضراً مع فدائيّي العملية خطوةً بخطوة ضمن وحدة إسناد العملية.
في 15 آب/أغسطس 2001، اهتزّت أرجاء مستوطنة "كفار داروم" على وقع سقوط عشرات قذائف الهاون، وصواريخ "الناصر" المحلية الصنع، لتسجّل الألوية أول عملية قصف بقذائف محليّة، ساهم في تطويرها كلٌّ من الشهداء جمال أبو سمهدانة، وعبد الكريم القوقا، وإياد أبو العنين، وإياد البرّ.
وفي 14 شباط/فبراير 2002، طوّر الشهيدان جمال أبو سمهدانة ومصطفى صباح عبوّةً ناسفةً نوعيّةً، تزن نحو 80 كيلوغراماً، استُخدمت في أول تفجير لدبابة "ميركافا 3"، بعد أن زُرعت العبوّة في طريق الدبابة بالقرب من مستوطنة المنطار "نتساريم"، جنوبي قطاع غزة.
استطاع مهندس الدبابات في الثورة الفلسطينية، التي لم تمتلك دبابة، ونتيجة علمه في هندسة الدبابات، أن يوظف هذه المعرفة في إعطاب "مفخرة الصناعة العسكرية" الإسرائيلية.
واصلت الألوية عملها العسكري ضمن الاستراتيجية ذاتها، فنفّذت في 25 تشرين الثاني/نوفمبر 2003، وبالتعاون مع كتائب الشهيد عزّ الدين القسام، عملية نسف برج "حردون" العسكري، جنوبي رفح، وتُعَدّ أولى عمليات نسف الأبراج العسكرية خلال انتفاضة الأقصى.
وخلال أعوام الانتفاضة، واصلت مجاميع الألوية قصف المستوطنات الصهيونية بإطلاق صواريخ "ناصر 1" ومداها 3 كم، و"ناصر 2"، ومداها 6 كم. كما طال القصف مواقع "ناحل عوز"، و"نغيف هسترا زيكيم"، و"كفار عزة"، بوتيرة شبه يومية.
وبعد أقل من أسبوعين من عملية اغتيال الشيخ أحمد ياسين عام 2004، بادر الشهيدان جمال أبو سمهدانة وأبو يوسف القوقا إلى تنفيذ كمين في طريق رفح – دير البلح، هاجما خلاله قافلة للمستوطنين، وأسفرت العملية عن مقتل مستوطن وجرح 4 آخرين.
وفي أول تواصل بين المقاومة في لبنان وفصائل المقاومة في غزة، تعاونت الألوية مع كوادر حزب الله، الأمر الذي كان له دور مهم في تطوير قدرة منظومة الصواريخ، وتصنيع العبوات، والذي أثمر لاحقاً عن تزويد الألوية بصواريخ "غراد" الروسيّة، والتي مكّنتها من قصف بئر السبع عدّة مراتٍ خلال عامي 2004 و 2005.
ورأى الشهيد جمال أبو سمهدانة في تجربة حزب الله نموذجاً مقاوماً ناجحاً، وحالة معيارية يمكن تكرارها في فلسطين، وفي قطاع غزة تحديداً. وبعد 5 أعوام، وقف الشهيد جمال ورفاقه، وهم يشهدون تكرار هذا النموذج ونجاحه، عند انسحاب الاحتلال من قطاع غزة في أيلول/سبتمبر 2005.
بالإضافة إلى ذلك، حرص الشهيد جمال أبو سمهدانة، منذ بداية الانتفاضة، على نقل تجربة ألوية الناصر صلاح الدين العسكريّة إلى الضفة الغربية، فبادر إلى إرسال عدة مجموعات متخصّصة بتصنيع العبوات الموجّهة والصواريخ إلى الضفة الغربية. وتمكّنت إحدى تلك المجموعات من الوصول إلى الضفة الغربية، وتواصلت مع قائد كتائب شهداء الأقصى في الخليل، الشهيد مروان زلّوم.
عام 2006.. اغتيال أبو سمهدانة
في بداية عام 2006، بدأ الشهيد جمال أبو سمهدانة التخطيطَ لتنفيذ عملية نوعية ضد المعسكرات الإسرائيلية في رفح، وشارك رفاق السلاح للقائد "أبو عطايا" في التخطيط لها، وأبرزهم الشهيدان رائد العطار ومحمد أبو شمالة.
إلّا أن اغتيال جمال أبو سمهدانة في غارة إسرائيلية على موقع تدريب لألوية الناصر صلاح الدين، في الثامن من حزيران/يونيو 2006، جعل الأمور تأخذ منحى آخر، فأتت عملية "الوهم المتبدد" ردّاً سريعٍاً وأولياً على اغتيال القائد "أبو عطايا". وتمّ الاتفاق على تنفيذ العملية، كما خُطِّطت مع "أبو عطايا". واختير محمد فروانة وحامد الرنتيسي للقيام بها.
وفي ساعات الفجر من تاريخ 25 حزيران/يونيو 2006، أيّ بعد أسبوعين فقط من استشهاد "أبو عطايا"، اخترق الاستشهاديان الحدود الشرقية لرفح.
وبدأت وحدة الإسناد، بقيادة الشهيد هشام أبو نصيرة، شنَّ الهجوم بالسلاح الآلي والقواذف. اقتحم فراونة والرنتيسي الموقع، بسلاحيهما الكلاشينكوف والــ (RPG7)، عبر نفق حُفِر أسفل الموقع، وبادر الشهيد الرنتيسي إلى إطلاق قذيفة الـ "آر بي جي" في اتجاه ناقلة الجند المجنزرة، والتي كان يقبع فيها جلعاد شاليط. سحبه من وسط الموقع، وسلّمه إلى وحدة الإسناد، وعاد ليشتبك مع رفيقه فراونة، مخبراً رفاقه بأنّه "أقدم على هذه العملية ليستشهد.. لا ليعود سالماً".