قصص التجارب المتناظرة.. لماذا تتضامن أيرلندا واسكتلندا بقوة مع الفلسطينيين؟
تتميز أيرلندا واسكتلندا بالنفس الداعم للقضية الفلسطينية رسمياً وشعبياً، في كل محطة تاريخية، عن سائر الدول الأوروبية. ما هو سرّ تميز هذه البلدان في دعمها للفلسطينيين؟
تظاهرات حاشدة في الشوارع، إدانات سياسية حازمة، كوفيات في البرلمان، رفع للأعلام الفلسطينية وهتافات صادحة في ملاعب كرة القدم، هكذا قرر الأيرلنديون دعم فلسطين وإظهار تضامنهم الكبير مع أهل غزة، في ظل العدوان الإسرائيلي المتواصل عليها منذ السابع من تشرين الأول/ أكتوبر الماضي.
على عكس الكثير من الدول الأوروبية، تقف أيرلندا بثباتٍ وحزمٍ كبيرين في نصرتها لأهل غزة، حيث أدان سياسيوها المجازر الإسرائيلية بحق المدنيين في تصريحاتٍ صارمة وواضحة، لا تحتمل التأويل. رئيس وزراء أيرلندا، ليو فاردكار، وصف العدوان على غزة بأنه "يصل إلى الانتقام"، أما وزير الخارجية، مايكل مارتن، فوصفه بـ"غير المتناسب"، فيما ذهبت المعارضة أبعد منهما ووصفت ما يحدث في غزة بأنه "جريمة جماعية"، وارتدى بعضهم الكوفية الفلسطينية في البرلمان.
إلا أنّ موقف أيرلندا المتصاعد عبر السنوات في شجب الاعتداءات الإسرائيلية ودعم القضية الفلسطينية، ليس جديداً أو مفاجئاً، إذ إنّ الجزيرة الواقعة شمال غرب أوروبا لها باعٌ طويل في نصرة الملف الفلسطيني في العديد من المحطات التاريخية. التعاطف مع فلسطين متجذر في التاريخ الأيرلندي، إذ يرى الأيرلنديون في مظلومية الشعب الفلسطيني تشابهاً كبيراً مع ما عايشوه سابقاً تحت نير الاستعمار البريطاني.
هل ترى أيرلندا في فلسطين صورة للذات؟
عاشت دبلن ظروفاً قاهرة تحت وطأة الاحتلال البريطاني، و بدأ الأمر كله مع الزحف الإنكليزي إلى أيرلندا في القرن الثاني عشر خلال حكم الملك الإنكليزي هنري الثاني، الذي أمر بغزو أيرلندا، لتصبح الأخيرة أول مستعمرة لبريطانيا في التاريخ. حينها، تمّ الاستيلاء على الأراضي الأيرلندية تحت حججٍ دينية وتم الاعتماد عليها مصدراً للأموال، كما حُظرت اللغة الأيرلندية، وتم اعتبار السكان الأيرلنديون مواطنين من الدرجة الثانية، كما جرّب الأيرلنديون موجات النزوح والهجرة.
تزايد الظلم الذي عايشه الأيرلنديون في وقتٍ لاحق من القرن السادس عشر، حين قرر الملك جيمس الأول منح أراضٍ للكثير من بروتستانت اسكتلندا وإنكلترا وويلز في إقليم يسمى "أولستر" شمالي أيرلندا، عندما كانت جزيرة أيرلندا برمتها تحت الحكم البريطاني، واستوطنوا فيها وأقاموا فيها مزارع، ليشكلوا في هذه المنطقة أغلبية بروتستانتية على حساب سكانها الأصليين من الكاثوليك.
عاشت أيرلندا معاناةً واضطهاداً كبيرين أوقعتهُ الأقلية البروتستانتية على الأكثرية الكاثوليكية في القرنين السابع عشر والثامن عشر، إذ مُنعَ الكاثوليك من التعلّم ومن حق الانتخاب، كما حاولت إنكلترا فرض المذهب البروتستانتي على الأيرلنديين الكاثوليك، وأجبرتهم على إنشاء كنيسة بروتستانتية وطرد القساوسة الكاثوليك. وبالإضافة إلى الطغيان الديني ومحاولة تجريد الكاثوليك الأيرلنديين من دينهم، سعى الاستعمار البريطاني في تلك الفترة إلى سلب الشعب الأيرلندي حقوقه، وأهمّها الحق في تملك الأرض، في محاولة لإنشاء أيرلندا بروتستانتية خاصة بهم.
وكأنّ ما حلّ بالأيرلنديين من مآسٍ لم يكفِ، حتى جاء القرن التاسع عشر ليحمل معه مأساةً جديدة لهم. ففي الفترة الممتدة من سنة 1845 إلى 1849، اجتاحت أيرلندا مجاعةٌ كبيرة، باتت من أهم الأحداث المحفورة في تاريخ البلاد وذاكرة الأيرلنديين، عرفت بـ "مجاعة البطاطا".
كان ثلث سكان أيرلندا يعتمدون على أكل البطاطا كغذاءٍ لهم، بسبب الفقر المدقع، بيد أنّ آفة زراعية ضربت أوروبا وأتلفت المحصول. فبعدما صودرت الأراضي الزراعيّة الأيرلندية الخصبة ليستغلها الإقطاعيون البريطانيون، تُركَت للأيرلنديين مساحات زراعية صغيرة، لم يتمكنوا فيها إلا من زراعة البطاطا ، التي تحولت لاحقاً إلى مصدرٍ رئيسي لغذائهم. هكذا، سبّبت الآفة الزراعية خسارة المحصول في مواسم عدة، مسببةً وفاة مليون ونصف مليون من السكان بسبب الجوع والأمراض، وهجرة مليون آخر إلى العديد من الأماكن، ومنها الولايات المتحدة الأميركية وبريطانيا.
لكن، على الرغم من كل هذه المظالم، لم يفلح البريطانيون في مسح الهوية الأيرلندية أو طمسها. بل على العكس من ذلك، تعزّزت روح المقاومة لدى الأيرلنديين، وهو ما شهدته البلاد في السنوات اللاحقة، عبر عمليات مقاومة شعبية وتنظيمات كفاحية كاثوليكية، انطلاقاً من الثورة الأيرلندية عام 1798، مروراً بانتفاضة الفصح في أبريل/نيسان 1916. وشكّلت هذه الانتفاضة نقطة الانطلاق نحو اعتراف الاحتلال البريطاني بالشعب الأيرلندي ومطالبه بالاستقلال، إلى جانب تعزيز مكانة الجيش الجمهوري الأيرلندي وحزبه "شين فين" بين الأيرلنديين، ليشكل الحزب مطلع سنة 1919 حكومة أيرلنديّة، معلناً استقلال الجزيرة عن الاستعمار البريطاني، لكن بقيت 6 مناطق في الشمال (إقليم أولستر) غالبية سكانها من البروتستانت، مرتبطة ببريطانيا.
هكذا، عاش الأيرلنديون سنوات طويلة في محاربة الاستعمار لأراضيهم، وهو ما يتشابه مع ما يعانيه الفلسطينيون مع الاحتلال الإسرائيلي، من قمع ومصادرة أراض ومرارة تهجير. لذلك، كانت أيرلندا أول عضو أوروبي نادى بقيام دولة فلسطينية في شباط/فبراير من العام 1980، وكانت آخر من سمح لـ"إسرائيل" بتشييد سفارة فيها في كانون الأول/ديسمبر عام 1993.
وبحسب صحيفة "فورين بوليسي" الأميركية، فإنّ القضية الفلسطينية احتلت مكاناً مميزاً في ضمير الأيرلنديين منذ أمدٍ طويل بما يتجاوز كثيراً الاعتبارات الجغرافية والاقتصادية أو السياسية. ووفقاً لتوازي وتطابق محنة الفلسطينيين مع تجربة الأيرلنديين القومية، فقد أوجد ذلك اتصالاً وتواصلاً عاطفياً ووجدانياً مع فلسطين.
اسكتلندا ومعارك الحرية
لا يختلف المشهد في اسكتلندا كثيراً عن ذلك في أيرلندا، لناحية مناصرة القضية الفلسطينية التي تحظى بدعمٍ شعبي وسياسي كبيرٍ فيها. خلال الأيام الماضية، تظاهر الآلاف في مدينة غلاسكو، نصرةً لفلسطين، مطالبين بوقف إطلاق النار الفوري في غزة، ونددوا بموقف الحكومة البريطانية والحكومات الغربية من العدوان ودعمهما حكومة الاحتلال الإسرائيلي.
وعلى الصعيد الرسمي، أعلن رئيس الوزراء الاسكتلندي، حمزة يوسف، أنّ بلاده مستعدة لتوفير اللجوء الإنساني للاجئين من قطاع غزة، وتزويدهم بالمساعدة الطبية اللازمة. والأمر لم يقتصر على ذلك، إذ طلب يوسف من رئيس وزراء بريطانيا، ريشي سوناك، أن يعترف بدولة فلسطين خلال جلسةٍ رسمية في البرلمان.
اسكتلندا الباحثة عن استقلالها عن الحكم البريطاني، تعدّ نسبة كبيرة من سكانها أبناء المهاجرين الأيرلنديين، الذين أُجبروا على ترك بلادهم، لا سيما في فترة "مجاعة البطاطا". هُجّر الكثير من الأيرلنديين إلى اسكتلندا واستقروا في غلاسكو، لكنهم عوملوا بعنصرية ودونيّة بسبب انتمائهم حينها إلى الكنيسة الكاثوليكية بدل البروتستانتية.
قاسى الاسكتلنديون الظلم والتهجير نفسيهما اللذين قاساهما الفلسطينيون، عندما احتُلّت أراضيهم من المستعمر الإنكليزي. تلك الطبقة المضطهدة التي تذوقت طعم البؤس والمرارة، تعرف شعور أن يُسلب المرء أبسط حقوقه وأن يتعرض للاستبداد، لذا فهي لا تفوّت أي فرصة لرفع صوتها والإعلان عن وقوفها إلى جانب المظلومين في فلسطين.
شعبا اسكتلندا وأيرلندا اللذان لا يعرفان حواجز جغرافية ولا فروقات ثقافية، خَبرا مرارة الاستعمار جيداً، لذلك كثيراً ما يعلو الصوت في إدنبرة ودبلن في اتجاه فلسطين: "لستم وحدكم، نحن معكم".