الطريقة التيجانية ودورها الحضاري في أفريقيا
مع أكثر من 80 مليون مريد في مناطق أفريقيا المختلفة، تعدّ الطريقة التيجانية إحدى أوسع الطرق الصوفية انتشاراً في أفريقيا والعالم، وهي تحظى باحترام وتقدير واسعين في أوساط المسؤولين والشعوب في غرب أفريقيا وشمالها. فما تفاصيل نشأتها؟ وما دورها الاجتماعي؟
تركت الطرق والحركات الصوفية في أفريقيا أثراً لافتاً في الحياة الاقتصادية والسياسية والاجتماعية، وأدت دوراً بالغ الأهمية في نشر تعاليم الإسلام المعتدل بين المسلمين وغير هم من الأفارقة.
وأدى عدد من هذه الطرق دوراً أساساً في مقاومة الاستعمار الأجنبي العسكري والثقافي للبلاد العربية والإسلامية، غير أن غالبية هذه الطرق، وإن ظلت تنأى بنفسها عن تعاطي السياسة بشكل مباشر منذ نشوء الدولة الوطنية الحديثة، ظلت تشكل رقماً صعباً في المعادلة بعدد مريدين تجاوز 300 مليون، مع حضور اجتماعي وانتشار ديني واسع، ما جعل لها تأثيراً مباشراً في الحياة السياسية، وخصوصاً في غرب أفريقيا، الأمر الذي دفع غالبية النظم السياسية إلى إدارة العلاقة معها وعدم إثارة غضبها.
الطريقة التيجانية
تعدّ الطريقة التيجانية من أوسع الطرق الصوفية انتشاراً، لكونها توصف بالسهولة وبساطة التعاليم.
ظهرت الطريقة التيجانية في أواخر القرن الثامن عشر على يد مؤسسها الشيخ أبي العباس أحمد بن محمد التيجاني الحسيني، المولود عام 1737م في مدينة عين ماضي في ولاية الأغواط الجزائرية.
وقد لُقب بالتيجاني نسبة إلى القبيلة التي تنتمي إليها والدته وأخواله بنو توجين. حفظ القرآن الكريم وعمره لم يتعدَّ 7 سنوات، ثم اشتغل بطلب العلوم الأصولية والفرعية حتى أتقنها.
تنقّل التيجاني بين عدة مناطق من المغرب العربي، واتصل بالعلماء والفقهاء يأخذ عنهم، ثم انتقل إلى المغرب الأقصى، ونزل في مدينة فاس المغربية التي أصبحت لاحقاً من أهم مراكز التيجانية في العالم، ومكث فيها 18 عاماً.
في رحلة عودته من الحجّ، مر التيجاني بالقاهرة. وهناك، التقى الشيخ محمد الخيضري الذي فوضه نشر تعاليم الخلواتية في شمال أفريقيا، فانطلق إلى مدينة فاس، ومكث فيها مدة يتعلّم ويعلّم علوم الدين، وأسس الطريقة الصوفية الخلواتية.
بعد ذلك، انتقل إلى مدينة تلمسان. ومنها توجه إلى قصري بوسمغون والشلالة في الصحراء الشرقية للجزائر. وهناك، بنى خلوة له وانقطع للعبادة.
مكث التيجاني في زاويته في قصر بوسمغون في ولاية البَيّض شمال غربي الجزائر ما يقارب 18 سنة داعياً، ثم أخذ يتنقل بين المناطق الصحراوية الفاصلة بين إقليم توات الجزائري ودول الساحل الأفريقي وتونس يدعو إلى الإسلام وينشر تعاليم طريقته الصوفية.
استمر بنشر دعوته إلى أن وافته المنية سنة 1815م في مدينة فاس. وكان قد استقر فيها بعد مطاردة باي وهران محمد الكبير له واستيلائه على قرية عين ماضي.
ترك التيجاني ذخراً كبيراً من المؤلفات الدينية، من أهمها "الإرشادات الربانية بالفتوحات الإلهية من فيض الحضرة الأحمدية التيجانية"، وهي شرح لقصيدة الهمزية للبوصيري في مدح الرسول (ص)، و"جواهر الحقائق في شرح الصلاة المسماة ياقوتة الحقائق والتعريف بحقيقة سيد الخلائق".
الامتداد
ينتشر مريدو الطريقة التيجانية من شرقي القارة الأفريقية إلى غربها مروراً بالشمال، ويقدر عددهم بأكثر من 85 مليون مريد ينتشرون في دول: مصر والسودان وليبيا وتونس والجزائر والمغرب وموريتانيا والسنغال وتشاد والنيجر ومالي ونيجيريا، إضافة إلى الغابون وغانا وغينيا وتوغو وساحل العاج وسيراليون وبوركينا فاسو.
وتحظى التيجانية بدعم المسؤولين الرسميين في تشاد وبقية دول الساحل الأفريقي، نظراً إلى انتشارها الشعبي الواسع هناك، وانتماء المسؤولين أنفسهم، كما الشعوب، إليها.
التأثير السياسي
في مؤتمر عُقد في العاصمة التشادية إنجمينا، وخلال زيارة الشيخ علي بلعرابي، الخليفة العام للطريقة التيجانية، أكد المشاركون أن الاعتدال ونبذ التطرف هما من أهم مميزات الطريقة التيجانية، في إشارة إلى مساندتهم الحكومة التشادية في حربها على الجماعات المتطرفة التي ترفع مطالب دينية، مثل مسلحي "بوكو حرام" في بحيرة تشاد، والتنظيمات الأخرى، مثل "القاعدة" و"داعش".
وقبل تشاد، زار بلعرابي النيجر، واستقبلته المؤسسة الرسمية بحفاوة مماثلة لتلك التي حظي بها في إنجمينا.
بعض الرؤساء، كالرئيس التشادي الراحل إدريس ديبي، رحب بالخليفة العام للطريقة، باعتباره تيجانياً مثل بقية أفراد المجتمع التشادي.
وفي الجزائر، ظهر في عهد الشاذلي بن جديد عام 1983 تأثير التيجانية بشكل واضح، وذلك حين تمت الموافقة على نقل جثمان حفيد مؤسس الطريقة الشيخ محمد الحبيب، المدفون في السنغال، منذ عام 1950 إلى مسقط رأسه في عين ماضي. يومها، كان لافتاً حضور الآلاف من وجهاء أفريقيا مراسم إعادة الدفن.
أما السنغال، فلا تزال على علاقة بمقرّ التيجانية في الجزائر إلى يومنا هذا، مع تواصل مستمر بين رئيسها ماكي سال والشيخ علي بلعربي التيجاني الذي لبى دعوة سال لزيارة السنغال والاجتماع معه العام الفائت.
دور الزوايا التيجانية الحضاري
كان للزوايا التيجانية التي انتشرت في مناطق استراتيجية في الغرب الأفريقي خاصة، نشاطات متعددة، ولا سيما في مجالات التربية والتعليم ونسخ المخطوطات وثقيف العبيد ثم عتقهم.
وقد حَوَت كل زاوية من زوايا التيجانية غرفاً لتحفيظ القرآن وتدريس العلوم الإسلامية، بما فيها الفقه والتفسير والحديث، والنحو والصرف. ولم يكتفِ علماء التيجانية بالتربية الشفوية، بل ألّفوا الكثير من الكتب في مختلف التخصصات، وخصوصاً التفسير والفقه.
كذلك، كانت زواياهم في غرب الجزائر زاخرة بالمخطوطات التي شكلت السند الأساس لانتشار الثقافة العربية والإسلامية، ولا سيما زاوية عين ماضي. وينقل بعض الباحثين أن الأتراك سلبوا منها غداة حملاتهم عليها كتباً على 60 بعيراً، ما يدل على الدور الكبير الذي اضطلعت به هذه الزوايا.
كذلك، ذكرت بعض المصادر دوراً آخر للتيجانيين تمثّل في شراء العبيد وتفقيههم في الدين الإسلامي، ثم عتقهم، حتى أصبح الكثير منهم فقهاء ودعاة.
ودأبت الزوايا على إحياء المناسبات الدينية، كالمولد النبوي والسَنَة الهجرية الجديدة، واستثمارها في الدعوة ومجالس الذكر.
النشاط الاقتصادي للتيجانية
تجلى الدور الاقتصادي للطريقة التيجانية عبر إسهامها في إنعاش المبادلات التجارية بين منطقة شمال أفريقيا وغربها منذ أواخر القرن الثامن عشر وبداية القرن التاسع عشر، فصارت التجارة وسيلة لنشر أفكار الطريقة، وأنشأت قوافل تجارية تجوب الصحراء طولاً وعرضاً.
وكان مقدَّمو الزوايا (والمُقَدَّمٌ هو سالك صوفي ما بين درجة المريد ومرتبة الشيخ) يقودون القوافل، ما حقق لهم نجاحاً مزدوجاً في نشر طريقتهم، فتدفقت الأموال إلى زواياهم.
ولم يقتصر نشاط أصحاب الطريقة التيجانية على التجارة؛ بل أولَوا اهتماماً بالغاً للزراعة، فحرصوا على استغلال كل شبر من أراضيهم، ولم تُثنهم الظروف المناخية الصعبة عن تحويل أراضيهم إلى بساتين خضراء، فكانت عين ماضي أنموذجاً لذلك، في ظل الضغوط التي كانت الطريقة تتعرض لها من "بايات" الغرب الجزائري.
الدور الاجتماعي
حرص شيوخ التيجانية على إصلاح المجتمع، ما حقق لهم محبة الناس والتفافهم حولهم، فأصلحوا بين المتخاصمين من القبائل، وجعلوا من الزوايا مراكز للصلح، فكان لشيوخهم صوت مسموع واحترام كبير في كل مناطق الغرب الجزائري، وعرف عن الشيخ التيجاني المؤسس مراسلة أتباعه، وهو في فاس، لحل المشكلات الاجتماعية. وقد ورد الكثير من هذه الرسائل في مخطوط "جوهر المعاني".
كذلك، قام الشيخ المؤسس أحمد التيجاني، قبل مغادرته الجزائر، بعقد صلح بين قبيلتي الأحلاف وأولاد سرغين بعدما عجز الكثيرون عن إخماد هذا النزاع، إضافة إلى عقده صلحاً بين قبائل متنافرة في أرياف المغرب الأقصى.
كذلك، عقد الشيخ محمد الحافظ المصري التيجاني (ت 1978) صلحاً بين الجانبين المصري والسوداني، وتوسط الشيخ محمود التيجاني سليل الشيخ أحمد التيجاني على مدى نصف عام كامل بالصلح بين قبائل الريف المغربي الأقصى، بعدما كادت خلافاتهم تتحول إلى حرب أهلية، ولم يعد إلى الجزائر إلا بعدما حل المشكلة.
وأدى الشيخ محمود التيجاني دوراً أساساً في الصلح بين موريتانيا والسنغال بخصوص خلافات نشبت قبل سنوات. وبالتالي، لم تكتفِ الطريقة التيجانية بالتربية الروحية، بل تعدتها إلى وظائف اجتماعية هدفت من خلالها إلى بناء مجتمع إسلامي متماسك.
الدور التاريخي
رغم إلحاح التيجاني على أتباعه بالابتعاد عن السياسة، وجدت الطريقة نفسها مضطرة إلى المواجهة السياسية مع الحكم المحلي، سواء مع العثمانيين بعد هجرة الشيخ أحمد التيجاني إلى فاس أو مع الاستعمار الفرنسي في السنغال.
مواجهة الاستعمار
في القرن التاسع عشر، انتشرت التيجانية بشكل واسع وكثر مريدوها، حتى اعتبرت إحدى حلقات الصحوة الإسلامية الأساسية في أفريقيا، وخصوصاً مع الدور المهم الذي أداه بعض علمائها ومريديها في مقاومة الاحتلال الأوروبي، كالشيخ عمر الفوتي التيجاني، الذي حارب الفرنسيين قرابة 12 عاماً، وأسس دولة في غرب أفريقيا اعتمد فيها التيجانية منهجاً عقائدياً.
عاشت دولة الفوتي بين 1794 -1864، وامتدت بين السنغال وغينيا والنيجر ومالي وتشاد وشمال نيجيريا ومنطقة كوش في شرق موريتانيا، وأدت دوراً حيوياً ودينياً في تاريخ تلك المنطقة.
كذلك، حارب الشيخ محمد الحافظ المصري التيجاني الإنكليز في مصر، وأدى دوراً قيادياً في ثورة عام 1919، وقاد إحدى المعارك في أسيوط ضدهم، واستمر في نضاله حتى أُسر وسجن.
ورغم انتقادات البعض للآراء المرحلية لبعض علماء التيجانية في تونس أو الجزائر أو غيرها تجاه الاستعمار، حين لم يتخذ بعضهم منهج المواجهة، كما فعلت بعض الحركات الصوفية كالسنوسية، يُحتمل أن يكون تشخيصهم في تلك المرحلة ناتجاً من رغبتهم في حقن دماء شعوبهم، في وقت شخصوا أن المواجهة خاسرة مع الاستعمار في ظل غياب التكافؤ. وسواء أوافقنا أم رفضنا هذه المقاربة، فإننا لا نستطيع تعميم هذا الرأي على الطريقة ككل، بعدما ذكرنا الدور البارز لأكثر من شيخ من شيوخها في مواجهة الاستعمار.
والشيء الذي لا يمكن الاختلاف حوله هو أن الطريقة التيجانية أدت دوراً مهماً في حفظ العلوم الإسلامية واللغة العربية ونشرها وبناء الزوايا في مناطق المغرب العربي وغرب أفريقيا، بالرغم من الفترة المضطربة التي تأسست فيها والضغوط التي عانى منها المؤسسون.
وقد استطاعت أن تنشر الإسلام الوسطي في أفريقيا جنوب الصحراء، وجذبت عشرات الملايين من المريدين على امتداد أفريقيا، ويُشهد لها اهتمامها بالتجارة والزراعة وإصلاح المجتمع في سبيل بناء بيئة صالحة مستقرة. لذلك، استحقت أن تكون الحركة الصوفية الأوسع انتشاراً في أفريقيا بجدارة.