أنقرة ودمشق.. مخاض المصالحة الصعب
بينما لا تبدو ملامح أي قواسم مشتركة بين تركيا وسوريا حتى الآن، تبقى علاقة الأولى بحليفتي الأخيرة، روسيا وإيران، هي الرابط الوحيد. لذلك، فإنّ عملية إعادة العلاقات بين أنقرة ودمشق لن تكون سهلة في المدى المنظور.
كثيرةٌ هي التساؤلات التي تدور بشأن تبعات تصريحات وزير الخارجية التركي، مولود جاويش أوغلو، إزاء إعلانه رغبة تركيا في إجراء اتفاق أو مصالحة بين حكومة دمشق والمعارضة السورية. فهل سيتحقق هذا التقارب في ظل وجود معوّقات لعودة العلاقات السورية التركية؟
ما مصير الوجود التركي في سوريا؟
العائق الأول أمام عودة العلاقات السورية التركية يتمثّل باحتلال تركيا أراضيَ سورية، تُشكّل نسبة 9% من مساحتها الجغرافية.
احتلال تركيا للأراضي السورية جاء بالتدريج، إذ أعلنت أنقرة رسمياً دخولها المباشر على خطّ الأزمة السورية، منذ آب/أغسطس 2016، بهدف تحقيق ما وصفته وقتئذٍ بالدفاع عن الأمن القومي التركي، والقضاء على وحدات "حماية الشعب الكردية" الموجودة عند حدودها.
عسكريّاً، دعمت القوات التركية فصائل المعارضة ("الجيش الحر" سابقاً، و"الجيش الوطني السوري") في عدّة عمليّات، أدّت إلى إقامة 4 مناطق حدودية، سُمِّي كلٌّ منها باسمٍ، تيمّناً بالعملية العسكرية التي نفّذتها أنقرة للسيطرة على الأراضي السورية.
بين عامي 2016 و2017، نجم عن عمليّة "درع الفرات" إحكام تركيا قبضتها على ريف محافظة حلب الشمالي.
وفي عام 2018، سيطرت فصائل المعارضة، بالتعاون مع الجيش التركي، على ريف محافظة حلب الشمالي الغربي، في أعقاب عملية "غصن الزيتون".
ثمّ تمكّنت تركيا، في عام 2019، من خلال عمليّة "نبع السلام"، من السيطرة على معظم المناطق الواقعة شرقي الفرات؛ أي على شريط حدودي طوله 100 كيلومتر، وعمقه نحو 33 كيلومتراً. وشملت العملية جانباً من ريف الرقة الشمالي، وهي المنطقة الواقعة شمالي الطريق الدولي "أم 4" (أوتوستراد حلب اللاذقية)، وجانباً من ريف الحسكة الشمالي الغربي.
وحاول الجيش التركي توسيع نطاق نفوذه في شرقي الفرات، عدّة مرّات، إلّا أنه اصطدم دائماً برفضٍ روسي - أميركي ومقاومةٍ من "قسد"، المدعومة من واشنطن.
وفي عام 2020، أطلق الجيش التركي عمليّة "درع الربيع" في محافظة إدلب؛ المحافظة الأخيرة التي لا تزال توجد فيها فصائل المعارضة السورية.
اليوم، بعد العمليات العسكرية التركية التي ترفضها وتدينها دمشق، باتت أنقرة والفصائل المسلحة المدعومة منها تسيطر على نحو 16.666 كيلومتراً من مساحة سوريا الجغرافية. وإذا جرى اتفاقٌ سوري تركي، فسيكون الملف الأول في لائحة التفاوض هو الانسحاب التركي من سوريا، بحسب ما يؤكده دائماً الموقف الرسمي السوري، أو حلّ الموضوع، وفقاً لمحللين، من خلال اعتبار تلك المناطق في شمالي سوريا، وليست جزءاً من سوريا ولا من تركيا، بل ستصبح بمثابة منطقة عازلة بين الطرفين، وستؤدي في الوقت نفسه دوراً اقتصادياً مهماً للبلدين.
وعلى الرغم من عقد قمتي "طهران" و"سوتشي" على طريق حل الأزمة السورية التركية، فإن الرئيس التركي، رجب طيب إردوغان، لا يزال متمسكاً بفكرة "المنطقة الآمنة"، التي تريد أنقرة إنشاءها على طول الحدود الشمالية لسوريا بعمق 30-40 كم، وهذا ما تقول عنه سوريا إنّه سيضع تركيا في صراع معها.
مستقبل "الجيش الوطني السوري"
يُعَدّ "الجيش الوطني السوري"، المدعوم تركياً، قوّة تركيا في المعارك البرية، ولاسيّما أنّ الفصائل المسلحة السورية هي التي تتولى السيطرة على المناطق في شمالي سوريا بعد العمليات التركية، مع العلم بأنّ الجيش التركي هو من يموّل "الجيش الوطني السوري" بالغذاء والسلاح، كما أنّه يُشرف على تدريبات عناصره.
ويضمّ "الجيش الوطني" مجموعةً من فصائل المعارضة المسلحة السورية، التي كانت تشكل ما يسمى "الجيش السوري الحرّ" قبل العملية العسكرية الأولى لتركيا في سوريا، والتي أطلقت عليها تركيا تسمية "درع الفرات"، في آب/أغسطس 2016.
وفي حال أرادت سوريا وتركيا المصالحة، فسيكون العائق الثاني هو وجود "الجيش الوطني السوري"، الذي من الممكن أن تتخلى عنه تركيا، وهذا الأمر يظهر جلياً من خلال تصريحات وزير الخارجية التركي، مولود جاويش أوغلو، بشأن ضرورة مصالحة المعارضة المسلحة مع الحكومة السورية، "بطريقة ما".
وإذا تمّت عملية المصالحة، فيخشى محللون تكرار تجربة الجنوب السوري، وتطبيق اتفاقيات التسوية مع الحكومة السورية. وهنا، يكون "الجيش الوطني السوري" أمام خيارين: الأول: الدخول في تسويات مع الحكومة السورية. والثاني: اللجوء إلى القتال ورفض المصالحة مع الحكومة السورية. وهنا، سيكون مصيره الاضمحلال، وخصوصاً أن تركيا تكون قد قطعت التمويل والسلاح عنه بعد دخولها في مصالحة مفترضة مع سوريا.
كيف يستغلّ إردوغان ورقة اللاجئين السوريين لمصلحة الانتخابات؟
العائق الثالث أمام عودة العلاقات السورية التركية هو ملف اللاجئين السوريين. فوفق الإحصاءات، يعيش في تركيا نحو 3.7 ملايين سوري. وحتى آب/أغسطس 2022، جنّست تركيا ما يقارب من 200.950 سورياً. وأعلن وزير الداخلية، سليمان صويلو، أنّه اعتباراً من 31 آذار/مارس 2022 يحق لـ113.654 سورياً التصويت في حالة إجراء انتخابات محتملة.
وعلى وقع الأزمة الاقتصادية التي تعيشها تركيا، يُشكّل اللاجئون السوريون رهاناً صعباً أمام الرئيس التركي، رجب طيب إردوغان، الذي يرغب في الفوز في ولاية ثالثة، قبل عامٍ من الانتخابات الرئاسية. ويستغل إردوغان اللاجئين من خلال أمرين اثنين: الأول، يخطط عبره لجذبهم إليه من أجل انتخابه، فيقول لهم إنّه "دافع ويدافع عنهم، ولن يتخلى عنهم، وهو مستمرّ في بناء المساكن لهم، وتأمين الخدمات كافة، في جميع المناطق التي تسيطر عليها تركيا".
أمّا الأمر الثاني، فيتعلّق بالداخل. فورقة اللاجئين السوريين، التي تشكل عبئاً على البلاد، سيحلها الرئيس التركي، وفق تصريحاته، سعياً كي يظهر منتصراً أمام الأحزاب التركية وأمام الناخبين الأتراك، وذلك من خلال إعلان رغبته في إعادة مليون ونصف مليون لاجئ سوري "طواعيةً" إلى الشريط الحدودي، الذي تحتله تركيا، وذلك بعد إطلاقه مشروع مدن الطوب لإسكان اللاجئين في 13 بلدة ومدينة سكنية، تمتد من جرابلس غرباً حتى رأس العين شرقاً.
وأوفد إردوغان وزير داخليته، سليمان صويلو، إلى مدينة سرمدا في محافظة إدلب السورية، التي تسيطر عليها القوات التركية والفصائل المسلحة الموالية لها، من أجل تدشين هذا المشروع، ليؤكد سيطرته على الشريط الحدودي في سوريا، وليظهر أنّه وسّع نفوذ تركيا. كما أنّ له أهدافاً لا تقلّ أهمية، وهي إحداث تغيير ديمغرافي في المناطق الحدودية، وإبعاد المواطنين السوريين الكرد عن الحدود لمصلحة إنشاء تجمعات سكانية موالية لإردوغان، ولا تُشكّل خطراً على الأمن القومي التركي.
كما أنّ موضوع التتريك، وتغيير العملة المتداولة في مناطق سيطرة تركيا، وفتح المدارس والجامعات، وتغيير أسماء الشوارع والساحات السورية، أمور تعرقل عودة العلاقات بين البلدين. من ناحية العوائق، تبدو القائمة طويلة. فهناك عدد كبير للغاية من الفاعلين في المعادلة السورية، ولديهم جميعاً أولويات متعددة.
الكرد.. اهتمام سوري تركي مشترك
على الرغم من أنّ من الصعب عودة العلاقات الدبلوماسية في المستقبل القريب بين سوريا وتركيا، فإنّ الملفات بين البلدين تتقاطع في مجال يسمح للتعاون والتفاهم بشأن القضايا ذات الاهتمام المشترك.
ومن هذه القضايا، على سبيل المثال: حل وحدات "حماية الشعب الكردية"، وهذه الخطوة من شأنها أن تخفّف مخاوف تركيا على الأمن القومي.
وعلى الرغم من أنّ هذا الموضوع يُشكّل نقطة مشتركة، فإنّ هناك تبايناً في المعالجة بين التركي والسوري. فسوريا تسعى للحوار مع الكرد بعيداً عن أي خيارٍ عسكري، لأنها تعدّ الكرد جزءاً من النسيج السوري. كما أنها تنوّع الخيارات معهم من أجل جذبهم إليها، بالتعاون مع روسيا. أمّا تركيا فلا تمتلك إلّا الخيار العسكري ضد الكرد، وغير مستعدة للحوار معهم أصلاً، نتيجة أهداف توسعية.
الواقــع الجغــرافي يفــرض شــروطه الموضــوعية علــى بنــاء العلاقــات الســورية - التركيــة لمصــلحة البلــدين، وتسـوية الخلافـات بينهمـا من أجل حفظ الاسـتقرار، داخلياً وإقليمـياً، وضمان الأمـن القـومي لكليهمــا. وفشلُ تحقيق تركيا مخططاتها العسكرية، سواء التوسعية، أو الهادفة إلى دعم فصائل المعارضة المسلحة، التي تهدف إلى الضغط على الحكومة السورية، ربما سيدفع أنقرة خطوة إلى الوراء، وذلك بضغط من حليفتَي سوريا (إيران وروسيا). ولا يمكن أن نهمل خضوع أنقرة أيضاً للضـغوط الأميركيـة، إلى حـدّ بعيد، كونهـا عضـواً في حلـف شـمال الأطلسـي (الناتو).
اقرأ أيضاً: إردوغان والأسد.. لا مصالحة إلا بشروطه هو!