كيف أثر التباعد الجسدي في زمن كورونا على تبدّل العلاقات الاجتماعية؟
بعد عام على جائحة فيروس كورونا، يتوق الناس إلى اليوم الذي تعود فيه حياتهم إلى شكلها الطبيعي، وبما أن مرحلة "ما بعد الجائحة" صارت تثير فضولاً عارماً لدينا، لا بد من معرفة كيف أثرت كورونا على العلاقات الاجتماعية.
مضى عام كامل على بدء جائحة كورونا، بينما يتوق الناس إلى اليوم الذي تعود فيه حياتهم إلى شكلها الطبيعي، لا سيما أن الوباء أحدث تغييراً جذرياً في طريقة عيش الناس وتفاعلهم الاجتماعي.
أصاب الفيروس المستجد عشرات الملايين من الأشخاص حول العالم، وفقد ملايين الأشخاص وظائفهم من جراء حالات الإغلاق التي فرضت لكبح انتشار كورونا.
منظمة الصحة العالمية أوصت بدايةً بالتباعد الاجتماعي، ثم تراجعت عن التسمية وسمته التباعد الجسدي، لخطورة معنى التباعد الاجتماعي على مصير البشرية.
وبما أن مرحلة "ما بعد الجائحة" صارت تثير فضولاً عارماً لدى كثيرين، لا بد من معرفة كيف أثرت كورونا على العلاقات الاجتماعية، وكيف سيكون شكلها في المستقبل.
العلاقات الاجتماعية تساهم بقوة بالصحة النفسية
يقول الاختصاصي في علم النفس العيادي مهند سراج للميادين نت، إن "العلاقات الاجتماعية غايتها تبادل المنافع والاحتياجات والمصالح في أجواء آمنة مستقرة تشوبها الإيجابية، ففي الأسرة تنشأ علاقة اجتماعية ثنائية بين الزوجين تهدف لتنشئة الأبناء وتبادل المنافع المشتركة كالحب والاحتضان والحماية والغذاء والنظافة وغيرها من متطلبات الحياة".
وفي المدرسة أيضاً، وفق سراج، تنشأ علاقات اجتماعية دراسية بين المعلمين والتلاميذ، تهدف لتنشئة التلاميذ علمياً واجتماعياً، وتكوين الصداقات وتطوير المواهب واكتساب المفاهيم. وكذلك الأمر في المؤسسات المهنية والثقافية والدينية والسياسية والترفيهية، تقوم العلاقات الاجتماعية الإيجابية لتحقق الغايات النافعة لجميع أطراف العلاقة وتساهم بقوة بالصحة النفسية.
تغير شكل العلاقات الاجتماعية
يقول سراج في حديثه مع الميادين نت: "لاحظنا خلال سنة مضت منذ بداية انتشار الوباء عالمياً، أن العلاقات الاجتماعية تأثرت فعلاً"، ويشير إلى أن هناك عدة أنماط لهذه العلاقات يمكننا اختصارها كالتالي:
1- العلاقات الاجتماعية التي استمرت كما كانت سابقاً من دون أي تغيير، مع ظاهرة إنكار الوباء أو مخالفة مفاهيم الوقاية من الأمراض، ولكن ما لبث أن أحس أصحاب هذا التوجه بأن عليهم التراجع والتنبه إلى خطورة الوضع، لا سيما مع اقتراب المرض من عائلاتهم وموت عدد من معارفهم.
2- العلاقات الاجتماعية التي انقطعت أو صارت بعيدة نوعاً ما مع تفضيل الانعزال الاجتماعي، واقتصرت على التواصل لأجل الضروريات القصوى، كالتبادل المرتبط بالمنافع من دون أي مشاعر عاطفية أو اجتماعية، وأغلب هذه العلاقات تحولت إلى التواصل الالكتروني، لا سيما في عملية البيع والشراء واستلام السلع وتحويل الأموال حتى بين الأقارب من غير تودد أو إظهار المحبة.
3- العلاقات الاجتماعية التي تحولت كلياً إلى التواصل الالكتروني، فصارت العلاقات جافة، ما أثر في تدني نوعية المنافع المشتركة رغم كثافة التواصل، وهي ما لاحظناه في غالبية تجارب التعليم عن بعد، من خلال شكاوى جميع الأطراف، أي من الأهل والطلاب والمعلمين والإداريين على السواء.
4- العلاقات الاجتماعية المتكيفة، وهي التي حاول أصحابها أن يلتزموا بالوقاية والتباعد الجسدي، مع إيجاد حلول عديدة لإقامة العلاقات الإيجابية عن بعد، من خلال الأنشطة المتعددة الالكترونية والمباشرة على السواء، بهدف تفادي الانعزال الاجتماعي وتفعيل التواصل الإنساني.
السلوك البشري في زمن كورونا
يؤكد الاختصاصي في علم النفس العيادي أن هناك عادات جديدة يمكنها أن تعبر عن تغير في السلوك وأساليب التواصل منها "ظهور أساليب جديدة للمصافحة وإلقاء التحية كبديل عن تلامس الأيدي".
كذلك "ازدهرت الألعاب الالكترونية وانتشرت بكثافة، وصارت ميداناً للتعارف واللقاء الاجتماعي، وظهرت المسابقات العالمية لها على حساب الألعاب الميدانية".
ولفت سراج إلى أنه "صار الداخل إلى قاعات الاجتماعات يجلس بعيداً عن الجالسين على عكس السابق، وهذا يقلل من التواصل الإنساني. فيما استبدلت اللقاءات والمؤتمرات والمحاضرات والندوات بالاجتماعات الالكترونية".
وعن تغير طرق التخاطب، ذكر سراج أنه "صار من وراء الأبواب هو الأساس بدل الترحيب والبشاشة لعمال التوصيل وسائر الضيوف والجيران. إضافة إلى انحفاض مستوى التواصل السمعي لما لملامح الوجه وحركات الشفاه من أهمية في إيصال المعلومة السمعية بين الناس".
نتائج كورونا على الصحة النفسية
بحسب سراج، فإن الإنسان يعيش 90% من حياته وراء جدران المباني، ولكن هذه المباني متعددة ما بين أماكن السكن والعمل والترفيه، ويتواصل فيها مع أهله وأصدقائه وزملائه وينمي علاقاته الاجتماعية، ولكن في ظل الحجر الصحي اضطرت العائلات إلى أن تجتمع 100% من وقتها في مساحات ضيقة في البيوت، مما أدى إلى انقطاع العلاقات الاجتماعية بالخارج وكثافة التواصل الأسري مع اتساع الوقت والفراغ من جهة، إضافة إلى الضغوط النفسية بحالات العمل المنزلي والتعلم عن بعد من جهة أخرى.
هذا الأمر وفقاً للمختص النفسي أدى إلى آثار سيئة على مستوى الصحة النفسية، ومنها ارتفاع مستوى الضغوط النفسية والاكتئاب والقلق، ازدياد العنف الأسري، ازدياد نسب الطلاق (رغم تباطؤ التوثيق الرسمي بسبب إغلاق المحاكم)، إضافةً إلى الانعزال الاجتماعي والانغلاق على الذات، ترافقها قلة الحركة والنشاط.
وأشار سراج أيضاً إلى "اتساع نسبة الإدمان الالكتروني الذي كنا نحذر منه قبل الظروف الصحية، والتهور بالتخلي عن الوقاية والخروج للتنزه بتأثير من مشاعر الإحباط والملل، وأوجاع وآلام جسدية لأسباب نفسية وصحية".
مصير العلاقات الاجتماعية بمرحلة ما بعد كورونا
ما قبل زمن كورونا كانت المجتمعات الشرقية، بحسب سراج، تتوجه بتباطؤ شديد نحو الفردانية وتفكك العلاقات الاجتماعية، لتتبع النموذج الغربي من الاستقلال والحرية التي لها فوائدها وأضرارها على حد سواء.
ولكن جاءت هذه الظروف الصحية لتسرع هذا التفكك والخروج من قيود المجتمع، لا سيما مع الانفتاح الالكتروني وشيوع التعبير عن الرأي بجميع أشكاله الإيجابية والسلبية.
لذلك لا بد من التنبه والحذر مما يطرأ من تغيرات في العلاقات الاجتماعية، وفق سراج، "وتدارك القيم الاجتماعية الإيجابية ومحاولة تحسين ما يمكن تحسينه من التقاليد الاجتماعية السيئة حتى نحافظ على فوائد العلاقات الاجتماعية التي تعتبر الداعم الأساسي للصحة النفسية".
إرشادات اجتماعية في زمن كورونا
يقدم الاختصاصي في علم النفس العيادي مهند سراج بعض الإرشادات الاجتماعية التي تؤثر على الصحة النفسية في زمن الوباء والحجر المنزلي:
1- المحافظة على العلاقات الاجتماعية الإيجابية وإصلاح العلاقات السيئة لا سيما داخل الأسرة.
2- اغتنام اللحظات القليلة مع من نحب وإسعادهم بأي شكل من الأشكال، والتصالح معهم فوراً، مع ما نسمعه من أخبار الوفيات.
3- إقامة الأنشطة الممتعة إلكترونياً مع الالتزام بالوقاية والتباعد الجسدي، مثل الحفلات الإلكترونية لأعياد الميلاد وعيد الأم وعيد المعلم.
4- تنظيم البرنامج اليومي مع تضمينه للأنشطة الرياضية اليومية التي يقوم بها جميع أفراد الأسرة معاً.
5- التخاطب بأفضل الأساليب والترحيب النابع من القلب، مع تعبير العيون ورفع الصوت قليلاً في ظل ارتداء الكمامة.
6- استغلال الشرفات كمساحات أساسية للقاء مع الجيران، والتنزه على سطوح المنازل في أوقات متفرقة بحال لم يكن هناك مساحات خضراء مفتوحة.
7- استشارة المختصين بالعلوم النفسية والإرشاد الأسري كبديل أساسي لحل المشكلات عن طريق الجدالات وفرض الرأي بالقوة أو إزعاج الشريك بالعنف اللفظي وغير اللفظي.