"أمنيتي الإنسان".. طالبة وطبيبة لبنانية في طهران تخوض معركة كورونا
سماح مزنّر، ذات الثمانية والعشرين ربيعاً، طالبة طب جراحيّ "مقيمة" في مستشفى الإمام الخميني التابعة لجامعة طهران، تحارب في الخفاء وآثرت البقاء في إيران بعد انتشار كورونا، رأت أن الوطن بالنسبة إليها يزيد عن رقعة بحدود، فيجتازها إلى الإنسانيّة.
خالية هي طهران كما معظم المدن في إيران من الطلاب الأجانب واللبنانيين خصوصاً، حيث عاد أغلبهم إلى ربوع وطنهم بعد انتشار فيروس كورونا في البلاد، وتوجهوا إلى الحجر الصحي المنزلي، وشارك بعضهم تجاربهم على مواقع التواصل الاجتماعي.
غير أن طالبة جراحة لبنانية لا زالت منذ اليوم الأول لانتشار الفيروس تحارب في الخفاء وآثرت البقاء، رأت أن الوطن بالنسبة إليها يزيد عن رقعة بحدود، فيجتازها إلى الإنسانيّة. مرت كل هذه الأسابيع وهي تعمل بصمت وهدوء كعادتها، فمن يعرف "سماح" لن يستغرب ذلك، وهي التي في عادتها تجيب على رسائل المتطمئنين عنها بعبارة "اتاق عملم" أي "أنا في غرفة العمليات". لا تُضيّع دقيقة من دون أن تستغلها في العمل، فتتحدث عنها صديقاتها دوماً، عن مثابرتها وعزيمتها وحسّها الإنساني العميق الذي يغلب عليها.
سماح مزنّر، ذات الثمانية والعشرين ربيعاً، طالبة طب جراحيّ "مقيمة" في مستشفى الإمام الخميني التابعة لجامعة طهران، متنقلة بينها وبين مستشفى سينا التابعة للجامعة أيضاً. بدأت رحلتها منذ 9 سنوات. اختارت الجراحة لأنه الاختصاص الحلم بالنسبة إليها منذ صغرها. علمت تماماً عندما اختارت هذا الطريق صعوبته، ولكنها أصرّت على خوضه إلى أقصى وأقسى وأحلك ظروفه. عندما تسألها لماذا بقيتي في طهران؟ فترد عليك بسؤال آخر: " وما الذي يجعلني أغادر؟".
تجيبها: "ولكن عدد كبير قد غادر"، فتقول "نعم، سألوني إن كنت أريد المغادرة، لكنني لم أقبل، لم أستطع ترك رفاقي وزملائي في هذه الأوضاع. لم أستطع أن أحمّلهم هذه المشقة وترك مناوباتي على كاهلهم". يُبادر إلى ذهنك سؤال آخر: "ماذا عن أهلك، ألن يقلقوا عليك؟ تجيب "نعم، ولقد حزنوا لأنني لم آتِ في البداية"، وتضيف "لكن هذا واجبي، وهذا شيء عادي وبديهي، أن أكون هنا". وتشدد سماح على أن ذلك كان خيارها وحدها على قاعدة أن العمل الإنساني يمكن أن يكون على أي رقعة على الأرض، كما سيفعل بعض زملائها في أوطانهم في ظل هذه الأزمة.
أما عن عملها، فكما ذكرنا سابقاً فإن دراستها لطب الجراحة في جامعة طهران تستوجب أن تتنقل بين أقسام المستشفيات التابعة لها خلال سنوات دراستها. ومع انتشار فيروس كورونا في إيران، كانت مناوباتها في البداية في مستشفى الإمام الخميني - قسم الأطفال. وتقول إنه عكس ما يشاع أن الأطفال لا يصابون بالفيروس، بل صادفت في المستشفى أطفالاً قد أصيبوا به. وتذكر حادثة حصلت معها، أن طفلاً دخل المستشفى عمره قرابة التسعة أشهر، وكانت حالته الصحيّة سيّئة جداً، لكن لم تكن تعرف بعد بأنه مصاب بكورونا، إذ إنه كان يعاني من مرض آخر، ولم تكن حينها قد أخذت احتياطاتها للتعامل مع مريض كورونا. طلبوا منها حينها أن تضع له وريداً مركزياً والبدء بعلاجه، "كان يحتاج إلى chest tube لنتمكن من معالجة رئتيه المطبقتين. تعجّب كثيرون من ملازمتي له طوال الوقت، لكنّي فضلت البقاء معه على أن أتركه ويموت".
تلفت سماح إلى حجم المرضى الهائل المثبت لديهم فيروس كورونا في بدايات انتشاره، والذين يعانون من عوارض كالسعال وآلام في القفص الصدري وأوجاع في البدن وارتفاع الحرارة. ومع هذا العدد الكبير "انقسمت المستشفى إلى قسمين، واحد لعلاج كورونا وآخر لعلاج الحالات الطارئة الأخرى".
وتضيف أن المصابين بفيروس كورونا تنقسم حالتهم إلى اثنين وتختلف طرق علاجهم، فمن تكون حالتهم سيئة نُدخلهم إلى المستشفى لتلقي العلاج فيها، وآخرون يرجعون إلى بيوتهم بوصفات طبيّة وأدوية.
تقول سماح إنه بالرغم من أن دراستها هي طب الجراحة وليس الأمراض الجرثومية أو الداخلية، لكن "بمجرد أنني درست الطب العام فهذا يخولني المساعدة في علاج المرضى". الطالبة الطبيبة المناضلة، التي تعمل كخليّة النحل، فبالرغم من عملها في قسم الكورونا، فإنها لا تترك مناوباتها أيضاً في قسم الجراحة، وتبقى على مدار 24 ساعة متأهّبة للعمليات الجراحية الطارئة.
يلقّبها زملاؤها وأصدقاؤها المقرّبون بـ"دكتر مهربون" أي الطبيبة الحنونة، معتبرين أن هذا اللقب ليس مستغرباً، فلطالما كانت "سماح" إلى جانبهم وإلى جانب الناس في إيران عموماً وإلى الإنسانية خصوصاً، وفي الأحوال العادية عندما يبحثون عن سماح يرونها دوماً مشغولة بالمرضى. وفي أوقات فراغها واستراحتها عندما يفقدونها يذهبون إلى أقرب مكانٍ فيه قطط ويروها منشغلة بإطعامهم بدل من أن تتناول غذاءها.
خجولة هي سماح، لا تحب كثرة الحديث خاصة عن نفسها، لا تحب الضوضاء أو إثارة البلبلة، ولا الأضواء، تُفضل العمل في الظل، بكل هدوء بتركيز تام على العمل الأهم لديها وهو خدمة المرضى. تؤمن بشدة بالتجربة، وأن كل ما تقوم به يجعل منها طبيبة أفضل للمستقبل، ويرسّخ لديها رسالة الطب الإنسانية بعيداً عن أي انتفاعات. وطنها إنسانيتها وموطنها الجوهر الصافي للإنسان الذي وضعه الباري، فكما يقول مولانا البلخي "انسانم آرزوست" أي: أمنيتي الإنسان.