لماذا بتنا نتساهل بشأن التباعد الاجتماعي؟
دراسة جديدة تحاول تفسير التأثير المحتمل للعزلة الاجتماعية التي فرضها فيروس كورونا على الاحتياجات البشرية. إليكم النتائج في هذا المقال:
ترافقت إجراءات التباعد الاجتماعي المفروضة في كل دول العالم، كوسيلة لمواجهة "كوفيد 19"، مع ازدياد منسوب التوتر والقلق والخوف والشعور بالحزن والوحدة، بين معظم الناس الملتزمين الإجراءات الصحية.
ومع انتشار هذه المشاعر، تزداد أيضاً أعراض مصاحِبة لاضطرابات الصحة العقلية.
حاول كل من ماتياس، دومينسكي وماركس، في دراسة قاموا بها عام 2020، تفسير التأثير المحتمل للعزلة، التي فرضها التباعد الاجتماعي، في ضوء التسلسل الهرمي للاحتياجات البشرية. واعتبروا أن الاحتياجات الأكثر تأثراً تقع ضمن أربعة مستويات:
-الاحتياجات الفيزيولوجية
-الحاجة إلى الحماية الذاتية
-الحاجة إلى الانتماء
-الحاجة إلى احترام الذات
وخلص الباحثون إلى أن التركيز على الجانب النفسي، يقع ضمن المستويات الثلاثة الأخيرة. فعلى مستوى الحاجة إلى الحماية الذاتية، أصابت النداءات المتكررة لمنظمة الصحة العالمية، بخصوص التباعد الاجتماعي، الأفراد بالخوف والإحباط بسبب حاجتهم الكبيرة، في ظرف كهذا، إلى ضمان سلامتهم وسلامة أحبائهم. وهذه المشاعر أصابتهم بالأرَق والتهيُّج والعدوانية، الأمر الذي سبّب اللجوء إلى الكحول والمخدِّرات لتهدئة المخاوف. كما تتحوَّل في بعض الأحيان إلى عدوانية تترجَم على شكل عنف جسدي ضد أفراد الأُسرة.
وعلى صعيد الحاجة إلى الانتماء، يرتبط الدعم الاجتماعي، بين الأجيال واحترام الذات والشعور بالوحدة، ارتباطاً وثيقاً بالرفاهية الذاتية. وغياب ذلك، بسبب التباعد الاجتماعي، يؤدي إلى الشعور بالوحدة والضعف، وبالتالي إلى عواقب صحية سلبية طويلة الأجل. وكان كبار السن الفئةَ الأكثر عرضةً للتأثر بسبب فقدان الأجواء الأُسَرية والابتعاد عن الأصدقاء، وهو ما أدى إلى الأمراض المزمنة، أو فاقمها، وسبّب إعاقات حسّية، مثل فقدان السمع أو البصر. تجدر الإشارة هنا إلى أن الأشخاص ذوي الاحتياجات غير المُلَبّاة، تعرَّضوا بالنتيجة لخطر الفشل في تلبية احتياجات احترام الذات.
و احترام الذات هو شعور يأتي استجابةً للنجاح. واحتياجات المكانة، واحترام الذات، تعرّضت للخطر نتيجة الآثار التي فرضها التباعد الاجتماعي على تلبية المستويات الثلاثة الأولى من الحاجات (الفيزيولوجية، الحماية الذاتية، الانتماء)، والذي خلق لدى الأفراد شعوراً تراكمياً بالفشل. وتدنّي احترام الذات أدّى إلى الاكتئاب، وما تبعه من ممارسات سيئة، وأعراض صحية غير محدودة.
كل هذه المسائل أثارت انتباه الباحثين الذين تابعوا التطورات، وحاولوا تقديم بعض التوصيات للتعامل مع تداعياتها، كالنشاط البدني، والتآزر الأُسَري، والتواصل الالكتروني، والانحياز إلى التفاؤل، والتعبير عن المشاعر السلبية لتفادي الأثر السلبي لكبتها، وطلب المساعدة... إلخ. وذلك في الفترة التي سبقت اعتماد المجتمع الدولي للَّقاحات، التي اعتُبرت، عند الانتهاء من تطبيقها بصورة كاملة، المفتاح الذي قد يدفع الحكومات إلى تخفيف إجراءات التباعد الاجتماعي بالتدريج، كخطوة نحو إلغائها بصورة كاملة.
لكن، ما الذي يدفع كثيرين من الناس إلى التساهل بشأن التباعد الاجتماعي على الرّغم من ظهور متحوّرات جديدة من الفيروس، والتحذيرات المستمرة منها؟
في الواقع، يمكن لخمسة أنماط من التفكير أن تفسّر سبب عدم التزام كثيرين التباعد الاجتماعي:
1. التعميم المفرط
عندما نفرط في التعميم، نفترض أن تجربة سابقة تنطبق على كل موقف. بناءً على هذا المنطق، لا يمكن أن تكون أزمة "كوفيد 19" أسوأ من تفشي الأمراض السابقة، مثل "سارس" وإنفوانزا الطيور. لكن التجربة السابقة مفيدة بقدر ما هي ذات صلة. والتعميم من الفيروسات الأخرى يتجاهل السمات الفريدة لفيروس كورونا المستجد، مثل سهولة الانتقال، وقدرة الأشخاص الذين لا تظهر عليهم أعراض على نشره.
2. التقليل من الأهمية
تقلّل عدة معتقدات بشأن فيروس كورونا من خطورة الأزمة. البعض يشبّه الوباء بالإنفلوانزا العادية. ويتكرّر هذا الكلام كثيراً في كلّ المجتمعات. مَن منا لم يسمع أيضاً بتبرير العمر في معرض التقليل من خطوة الفيروس، مع أن عدد الشبّان الذين ماتوا بهذا الوباء عبر العالم ليس قليلا.
3. التفكير العاطفي
يمكن أن تعطينا عواطفنا أدلةً على ما هو حقيقي، لكن لا يمكن الاعتماد عليها على الإطلاق. على سبيل المثال، قد نفترض أن شيئاً سيحدث لأننا نشعر بالخوف، لكنه في الواقع كان إنذاراً خاطئاً.
قد يقوم أي شخص بالاستدلال العكسي لـ"كوفيد 19"، معتقداً أنه 'لا يمكن أن تحدث مشكلة كبيرة لأنني لست قلقاً بشأنه".
في الواقع، القَدَر لا يهتمّ بمشاعرك، وعدم الخوف من الشيء لا يعني عدم حدوثه!
4. قراءة الطالع
يبدو أن بعض الناس يعتقد أنه يستطيع رؤية المستقبل. وغالباً ما يحدث هذا الأمر بسبب الاعتماد على معطيات تجارب في الماضي. كثيرون يعتبرون أن الوباء سينتهي فجأة، وأننا سنكتشف أننا قلقنا أكثر مما يلزم. في الواقع، هذا النوع من "التنبّؤات" لا يخرج عن سياق "الدفاعات الآلية" التي نمارسها جميعها يومياً، بهدف إقناع أنفسنا بأننا بخير، من دون أن يعني ذلك أبداً أننا كذلك!
وفيما يخص قضية علمية، كفيروس كورونا المستجد، يفرض علينا المنطق والتفكير العقلاني التزام ما يقوله المتخصّصون والأطباء، بغضّ النظر عن تفكيرنا العاطفي.
5. الحرية الشخصية
يميل كثيرون إلى الاعتقاد أنهم أحرار في سلوكهم، على الرَّغم من أننا نواجه عدواً للبشرية بأسرها. في الواقع، يشبه هذا النمط من التفكير ما يلجأ إليه الناس الذين لا يضعون حزام الأمان في أثناء القيادة، بدعوى أن ذلك لا يؤثّر إلاّ فيهم، مع أن آلاف حوادث السير المميتة تقع يومياً في جميع أنحاء العالم.
في الخلاصة، نرتكب جميعنا مغالطات منطقية في تفكيرنا. وهذه إحدى سِمات العقل البشري. لكن إحدى فضائل البشر أيضاً أنهم يبنون قناعاتهم، ويطوّرون عقولهم، وفق ما يتعلّمونه. فهل ستلتزمون التباعد الاجتماعي من الآن فصاعدا؟