رفع الدّعم في لبنان والكارثة الاقتصاديّة القادمة
هل نتعامل مع حاكم المصرف المركزي على أساس أنّه موظف أو مشروع، لأنّ الفارق كبير في الحالتين، وخصوصاً إذا كان موظفاً، وكانت الدولة كلّها ترفض قراراته، فيما هي سارية المفعول!.
مطلع الأسبوع الماضي، بدأ الحديث خافتاً عن رفع الدعم عن المحروقات، والذي يؤمّنه المصرف المركزي اللبناني بسعر 3900 ليرة للدولار الواحد بدلاً من سعر السوق الذي يصل إلى 20000، لتنطلق حملات الردّ والنفي، قبل أن تقوم الجمارك بإحصاء مخزون الشركات ليل الثلاثاء، ليصدر مساء الأربعاء بيان مقتضب عن حاكم المصرف المركزي رياض سلامة، يعلن فيه توقفه كلّياً عن دعم المحروقات على سعر 3900، واستعداده لتأمين الدولارات بحسب سعر السوق.
حمل هذا القرار الذي صدر على شكل بيان ليلي بعد اجتماع للمجلس الأعلى للدفاع، ردود فعل واسعة على الصعد كافة، إذ استدعى رئيس الجمهورية سلامة، وطلب انعقاد مجلس الوزراء من دون أن ينجح في إيقاف قراره، بينما عقدت حكومة تصريف الأعمال اللبنانية برئاسة حسان دياب اجتماعاً وزارياً رفضت فيه قرار سلامة، معلنةً تجميده.
إلّا أنّ الحاكم الذي خرج بلقاءات إعلامية للدفاع عن قراره، أصرّ على عدم التمويل على سعر مدعوم إلا في حال أقرّ المجلس النيابي مشروع قانون معجّلاً مكرّراً يسمح باستخدام جزء من التوظيفات الإلزامية لدعم المحروقات غير المتوفرة؛ فرغم الدعم الذي بدأ على سعر 3900 ليرة في حزيران/يونيو الماضي، ورفع سعر صفيحة البنزين التي ما زال من الصعب الحصول عليها إلا بالانتظار في صفوف طويلة نظراً إلى الاحتكار والتهريب، من 42000 ليتخطّى 75000، استمرّت الطوابير!
تفاقم الأمر في شهري تموز/يوليو وآب/أغسطس، واستفحلت أزمة المازوت، المادة الأساسية في تأمين الطاقة، جرّاء غياب كهرباء الدولة التي لا تتخطى التغذية فيها 4 ساعات، إضافةً إلى المستشفيات والمخابز وغيرها من المرافق الأساسية.
فقدان هذه المادة أدّى إلى تقنين قاسٍ لدى المولدات التي توفّر الكهرباء للمنازل والمحلّات، وإلى اضطرار بعض المستشفيات إلى الإقفال، فضلاً عن المخابز، لعدم توفر المادة الاستراتيجية التي وصل سعرها إلى 500 ألف للصفيحة، ليغرق البلد في عتمة غير مسبوقة، على الرغم من إنفاق المصرف المركزي، بحسب الحاكم رياض سلامة، أكثر من 820 مليون دولار على المحروقات غير الموجودة في شهر واحد (تموز/يوليو).
وقد أعلن سلامة أنّ التداول سيتمّ على منصة صيرفة بسعر يتخطى 17000 للدولار، ليصل ثمن صفيحة المازوت إلى أكثر من 150000 في حال المبادرة إلى تنفيذ القرار، وسيلامس البنزين الـ200 ألف تقريباً، فهل يستطيع الحاكم مواجهة دولة ترفض قراره أو أنّه ينفّذ أجندة ومشروعاً خارجياً لتفجير لبنان؟
السؤال الأساس هنا: هل نتعامل مع حاكم المصرف المركزي على أساس أنّه موظف أو مشروع، لأنّ الفارق كبير في الحالتين، وخصوصاً إذا كان موظفاً، وكانت الدولة كلّها ترفض قراراته، فيما هي سارية المفعول! وهنا تكون الكارثة. إنَّ سير سلامة بقرار رفع الدعم من دون انتظار البطاقة التمويلية يعني أنّه يسير بهدف تطبيق اجتياح اقتصادي كامل على الواقع الاقتصادي اللبناني.
كما أنّ تداعيات تحرير سعر المحروقات ستطال كلّ القطاعات الإنتاجية التي تعتمد على المازوت لتوليد الطاقة، إضافة إلى التنقل. والحديث هنا عن رفع الأسعار بنسب تتخطّى 60% على كل السلع، من لحوم ودواجن وكهرباء وماء ونقل ودواء وطبابة وخبز وإنترنت. هذا الارتفاع المخيف في الأسعار سيؤدّي إلى تضخّم حادّ مع انعدام القدرة الشرائية لدى النّاس جرّاء الانهيار الحاد في سعر الدولار.
أمّا في حال احتساب صفيحتي الوقود والمازوت على سعر السوق، فسيصل سعر البنزين إلى 336000 ليرة، والمازوت إلى 272000 ليرة. وستؤدّي هذه الأسعار الجديدة، في حال أصبحت سارية، إلى عملية إفقار غير مسبوقة، في ظل أزمة حادّة، وعدم تشكيل حكومة، وغياب الخطة الإنقاذية، وعدم إقرار البطاقة التمويلية.
السؤال المطروح: هل سيؤدي القرار إلى انخفاض سعر الصرف أو إلى ارتفاعه، مع استمرار طبع المصرف المركزي الليرات؟ والسؤال الآخر الذي يُطرح: من أين سيؤمّن سلامة الدولارات لتمويل استيراد المحروقات التي تصل كلفتها السنوية إلى قرابة 5 مليار دولار ما بين فيول وغاز أويل ومازوت ووقود وغاز؟ علماً أنّ منصّة الصيرفة التي تحدّث عنها سلامة، وأعلن أنّه سيتم التداول عبرها، والتي تقوم بعمليات يومية، لا تتخطّى مليوني دولار بسعر صرف وسطي يومي متقلّب دون 18000، فمن أين سيتمّ تأمين المليارات؟ علماً أنّ القرار المركزي هو قرار سياسي بارتدادات اقتصادية.
وتعتبر أوساط متابعة أنّ القرار اتخذ في غرفة سوداء بالتضامن والتكافل مع قوى سياسية ظلامية راعية للفساد، وهي سبب الأزمة الاقتصادية الكبرى في البلد، والمواطن هو الذي يدفع الثمن.
إنَّ دعم الوقود والمازوت يكلّف 3.9 مليار دولار، فهل يؤدّي رفع الدعم إلى خفض الطلب على الدولار، ويخفضه من 20000 إلى 10000 مثلاً، وخصوصاً أنّ كلفة المازوت والوقود تصل إلى نصف ما يتكبّده المصرف سنوياً، هذا إذا اعتبرنا أنّ هذا الإجراء مفيد!
وهناك حديث عن أنّ رفع الدعم سيؤدّي إلى ضرب المحتكرين، وهو كلام مضحك! فمن أخبر المحتكرين برفع الدعم هو الّذي يساعدهم على تخزين المحروقات بانتظار بيعها بأسعار مرتفعة. والسؤال الآخر الذي يطرح: إذا كان هدف رفع الدعم هو عدم المسّ بالاحتياطات الموجودة، لمَ لم يتخذ قراراً فردياً على شاكلة قرار رفع الدعم بتطبيق "الكابيتال كونترول"، لمنع خروج مليارات الدولارات من البلد إلى الخارج؟ ألا يضرب هذا الاستنزاف الحاصل للدولارات العملة الوطنية والواقع الاقتصادي، في الوقت الذي يستهدف رفع الدعم بشكل أساسي المواطنين، ويضرّ بكل القطاعات الإنتاجية؟
ومع حديث الحكومة المتكرر عن البطاقة التمويلية التي وضعت أسسها الأولى لمساعدة العائلات الفقيرة، في ظلّ رفع الدعم والواقع المعيش، من المطلوب أن تؤمّن البطاقة حاجات الناس الأساسية، في ظل الواقع الصعب، وأن تكون بالعملة الصعبة، لكن إن كانت هذه البطاقة التمويلية انتخابية، فالأفضل أن لا تكون!
إنَّ ما يحدث من رفع للدعم وتحرير لسعر الصرف مع اقتراب تشكيل الحكومة هو مقدّمات لمشروع وخدمة تُسدى لصندوق النقد الدولي قبل المباشرة بالتفاوض معه، كي يفرض مزيداً من الشروط القاسية على البلد. والسؤال: هل سيبقى لبنان جزءاً من مشروع يؤدي إلى الاستسلام لصندوق النقد الدولي أو سيكون هناك مشروع اقتصادي آخر جدّي يؤدي إلى نظام اقتصادي مغاير؟
الرهان هو على قوى سياسية جدّية وقادرة على مواجهة المشروع الذي يستهدف محاصرة المقاومة في لبنان وبيئتها وضرب الإنجازات التي حقّقتها، فعليها المسارعة إلى مواجهة مشروع إفقار الناس، وتقسيم المقسّم، وتجزئة المجزأ اقتصادياً واجتماعياً، في ظل رفع الدعم عن المازوت الذي يستخدمه أصحاب المولدات في توليد الطاقة الكهربائية للناس مع تقنين تفرضه شركة كهرباء لبنان يصل إلى 20 ساعة يومياً.
وعلى الرغم من الاتفاق الذي أُبرم بين العراق ولبنان حول تأمين مليون طنّ من النفط العراقي الخام، والذي سيُستبدل بمواد نفطية يحتاجها لبنان، فإنّ هناك مساعيَ جدية من قبل "كارتيل" النفط المحتكر والمتحكّم في الوقود، لتأخير وصول النفط الذي يحتاجه لبنان وعرقلته.
هذه "الكارتيلات" محميّة داخلياً وخارجياً. ومع وصول النفط المستبدل بالنفط العراقي، سيؤدّي حكماً إلى ارتفاع ساعات التغذية، لتتخطّى 10 ساعات يومياً، ما يخفّف الحاجة إلى استخدام المازوت بنسبة تصل إلى 50%. ويوجّه السّؤال إلى وزير الطاقة اللبنانيّة حول عدم وضع دفتر شروط استبدال النفط العراقي حتى اليوم، مع مرور عدّة أسابيع على توقيع الاتفاق الذي يمكن أن يكون مقدّمة لاتفاقيات استراتيجية تجمع البلدين.
إنَّ الفرصة الحقيقية لضرب الاحتكار لا تكون إلّا من خلال توليد الدولة للطاقة، لا برفع الدّعم الذي يتيح الفرص للمحتكرين للتمادي في التحكّم في مصير الشعب. وما يجري من رفع للدعم وتأخير وصول النفط المستبدل بالنفط العراقي هو في إطار مشروع اجتياح اقتصادي لضرب لبنان بمساعدة محلّية.