السياسات الاقتصادية في مصر: تراكمٌ لأزماتٍ انفجرت عام 2023
الحدث الاقتصادي المصري من تضخمٍ في الأسعار وانهيار للعملة هو ليس ابن ساعته، ولكنّ الحقيقة أنّه حاضر ودائم منذ سنوات طويلة، فما سبب هبوط الجنيه المصري؟
تضخم اقتصادي، أزمة مالية، ارتفاع في قيمة الأسعار الغذائية، عجز في الموازنة، انخفاض الأجور، تحديد السحوبات المصرفية، وانهيار قيمة العملة المحلية أمام الدولار الأميركي. هذا مشهد سريع عن بعض ما عاناه الشعب اللبناني في السنوات الثلاث الأخيرة، إلا أنّ الأمر لم يطُل قبل أن تنتقل هذه "العدوى" الاقتصادية إلى القاهرة، ليعيش المصريون أزمةً مشابهةً في بلادهم التي ترزح تحت عبء الديون.
تزداد مخاوف الكثير من المصريين بشأن الوضع الاقتصادي، في ظل موجة الغلاء غير المسبوقة، وأسعار السلع والخدمات التي تتغير صعوداً كل بضع ساعات، لا سيما أنّ الأجور والرواتب التي يتلقاها أرباب الأسر لم تزداد، لتتوافق مع التضخم المتزايد في البلاد.
انخفضت قيمة العملة المصرية بنحو الثلث منذ أواخر تشرين الأول/أكتوبر، ويبلغ التضخم حالياً أكثر من 20%. ويعتقد بعض الاقتصاديين أنّ الواقع في الحقيقة أسوأ من ذلك بكثير، حيث قدّروا أنّ المعدل غير الرسمي، الذي يشمل الاقتصاد غير الرسمي الضخم في مصر، يصل إلى 101%، وفقاً لموقع "دويتشه فيله" الألماني.
إلا أنّ الحدث الاقتصادي المصري من تضخمٍ في الأسعار وانهيار للعملة هو ليس ابن ساعته، ولكنّ الحقيقة أنّه حاضر ودائم منذ سنوات طويلة، فما سبب هبوط الجنيه المصري؟
أخطاء متراكمة عبر السنين
أسباب الأزمة المصرية متراكمة ومتشابكة، وتتفاوت بين عوامل داخلية وخارجية. وتعود الأزمة في البلاد إلى العديد من الأخطاء التي انتهجتها الحكومات المصرية خلال السنوات الأخيرة، وفق ما رأى الخبير الاقتصادي المصري عبد الخالق فاروق.
وحول الأسباب الهيكلية، أكد فاروق للميادين نت أنّ القدرة المصرية على إنتاج غذائها تقلصت سنة تلو أخرى، فبعد أن كان لدى مصر اكتفاء ذاتي من معظم المحاصيل الزراعية، أصبحت تستورد الآن في المتوسط العام ما بين 65-70% من احتياجاتها الغذائية من الخارج. وهذا الأمر أثّر بشكلٍ كبير على ضرورة الحصول على عملات أجنبية للاستيراد، وهو ما أصبح عنصراً ضاغطاً على العملة المحلية.
أما العنصر الثاني في هيكل الإنتاج، فهو تآكل القدرات الصناعية عاماً تلو الآخر، بسبب عدم الاهتمام بالصناعة، وعدم قدرة الصناعات المصرية المحلية على منافسة الصناعات الأجنبية، إلى جانب ضخامة عدد الوكلاء التجاريين والمستوردين من الخارج. وهذا الأمر أثّر على قدرة العملة المصرية في مواجهة هذا الوضع الجديد، بحسب فاروق.
ومن الناحية المالية، لفت فاروق إلى أنّ الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي اعتمد سياسة الإغراق في الديون من الخارج، سواء لتغطية عجز الميزان التجاري، أو بناء مشاريع ليست ذات جدوى اقتصادية، على الأقل لمدة 10-15 سنة مقبلة.
إلا أنّ أسباب هبوط قيمة الجنيه لا تقتصر على ذلك، بل ساهمت في ذلك أيضاً حركة "الأموال الساخنة" التي تتحرك في البورصة لشراء أصول وأسهم وسندات دين على الحكومة المصرية، ثم تحقق أرباحها وتخرج بشكلٍ سريع من الاقتصاد المصري، بحسب فاروق.
وتواجه الحكومة المصرية صعوبات متزايدة في ضبط الأوضاع المالية، لا سيما مع تراجع قيمة العملة، وعزوف الاستثمارات الأجنبية طويلة الأجل عن القدوم إلى السوق المصرية. ووفق الخبير المصري، خرج من مصر 20 مليار دولار في العامين الأخيرين بسبب أزمة "كورونا"، ليخرج الكثير من المستثمرين العرب والأجانب من السوق المحلية في إثر ذلك. وهو ما كان له تأثير سلبي بشكلٍ بالغ على ما بقي من احتياطي النقد الأجنبي في البنك المركزي.
هذا الأمر، وفق فاروق، استدعى أن يستجدي السيسي السعودية والإمارات والكويت لإيداع أموال إضافية بالعملات الأجنبية لدى البنك المركزي المصري مقابل فائدة كبيرة، أو طلب مدّ فترة إيداع هذه الأموال، ليصبح الاقتصاد المصري رهينةً لدول الخليج، وتحديداً السعودية والإمارات.
الأسباب لا تقف عند هذا الحد، حيث لفت أيضاً إلى وجود اتجاه حقيقي في الفترة الأخيرة لإعادة النظر في تقييم سعر صرف الجنيه مقارنةً بالدولار، من أجل جذب استثمارات إماراتية وسعودية، موضحاً أنّ هذا الأمر في الحقيقة يعني تخفيض قيمة الأصول المصرية مقارنةً بالدولار، وبالتالي شراء أكبر عدد من الأصول المصرية بأسعار بخسة من قبل المستثمرين الخليجيين.
صندوق النقد الدولي
وفي ضوء الأزمة الاقتصادية الخانقة التي يعيشها المصريون، لم يختلف الحال في مصر عن الحال في أي دولة من دول العالم الثالث، حيث اتجهت السلطات فيها نحو خيار الاقتراض من هيئات المال الدولية. وتم التوصل لاتفاق مع صندوق النقد الدولي، تحصل مصر بموجبه على قرضٍ جديد، بقيمة 3 مليارات دولار، ويتيح الاتفاق للقاهرة الحصول على 14 مليار دولار من جهاتٍ أخرى.
بدوره، عزا رئيس القسم الاقتصادي في مؤسسة "الأهرام العربي"، حمدي الجمل، أسباب قيمة انخفاض الجنيه المصري إلى ذهاب الرئيس المصري نحو صندوق النقد الدولي والالتزام بتوصياته.
وأكد الجمل في حديثٍ للميادين نت أنّ توصيات صندوق النقد دائماً تهدف إلى احتلال الدول، وإخضاعهم بشكلٍ كامل للسير في حلقة مفرغة.
كذلك، رأى أنّ فشل السياسات الاقتصادية في مصر، والذهاب إلى مشاريع البنى التحتية طويلة الأمد التي ليس لديها عائد اقتصادي، تسببت أيضاً في تفاقم الأزمة.
خسر غالبية المصريين خلال أقل من سنة أكثر من ثلث قوّتهم الشرائية، في وقت يستمر فيه تراجع سعر الجنيه المصري وترتفع فيه الأسعار العالمية، ولا يبدو أنّ الأفق المنظور يحمل أي انفراجات في الوضع الاقتصادي.
وبحسب عبد الخالق فاروق، فإنّ سعر صرف العملة المحلية سواء في مصر أو غيرها، هو قمة جبل الجليد، لكن الأخطر والأهم هو ما تحت قمة هذا الجبل. وفي حال لم يتم إجراء أي تصحيح هيكلي في الاقتصاد المصري، ستظل هذه الأزمة قائمة، وستنخفض العملة الوطنية سنةً بعد أخرى بهذا الشكل الدراماتيكي.