داريا ليست مصالحة ولا تسوية

مع استسلام المسلحين في داريا ينهي الجيش السوري مساراً بطيئاً لكنه ثابت افتتحه منذ أربعة أعوام لمنع وصل الغوطتين الغربية بالشرقية وتطويق العاصمة. الجيش سيد الميدان الدمشقي اليوم من دون منازع.

كل ما يقال عن الحصار هو تضليل إعلامي
نقطة الشبه في الاتفاق الذي جرى توقيعه بين الجيش السوري، ومجموعة داريا هي الحافلات  التي حملت قبل عامين ونصف، ألفي مقاتل من قلب الاحياء القديمة المحاصرة في حمص وأجلتهم الى مدينة الرستن. ما عدا ذلك الفرق شاسع بين إجلاء مقاتلي حمص وداريا. كلمة اتفاق لا تنطبق حرفيا على الوثيقة التي جرى العمل بموجبها على إجلاء المسلحين وعائلاتهم من داريا، لأنها أقرب إلى وثيقة استسلام ما تبقى من المسلحين في داريا الى الجيش السوري الذي يدخل مدينة بعد أربعة أعوام من القتال كما يدخل منتصراً في معركة كبيرة. وهي وثيقة استسلام بناءا على طلب المجموعات المسلحة التي أوكلت إلى الفرقة الرابعة التي تنتشر في المنطقة، استلام أسلحتها الثقيلة والمتوسطة والخفيفة، واستلام الاحياء الاخيرة التي كانت المجموعات تقاتل فيها، وكذلك خرائط العبوات الناسفة والالغام. كما أوكلت إلى الجيش السوري الاشراف على خروج المسلحين مع عائلاتهم مناصفة الى ادلب، والى مراكز ايواء في أطراف دمشق. والجديد في العملية انها جرت مباشرة بين الجيش السوري، ومندوبين عن المجموعات المسلحة وبعض الوجهاء، ومن دون وساطات دولية كما في حالة حمص او غيرها. في هذا السياق ساهم مجرى الاستسلام بتخفيف الاعباء والضغوط الدولية على الحكومة السورية، خصوصا ان اعادة الاسكان والايواء  والاغاثة هي من مسؤولية الحكومة السورية، ولم تلحظ الوثيقة دوراً أو مساعدة تقدمها المنظمات الدولية او الامم المتحدة، بل رافق العملية علم الهلال الاحمر السوري في إشارة إلى أن كل عناصر التفاهم والتنفيذ سورية خالصة.

لماذا قررت المجموعات المسلحة فجأة تسليم معاقلها الأخيرة لقاء الخروج إلى إدلب ودمشق ؟

بدءا من شهر كانون الاول الماضي دخلت معركة داريا منعطفا حاسما، ربما كان هو العنصر الاساسي الذي جعل من الممكن  رؤية المسلحين يخلون مواقعهم ويصعدون الى الحافلات الخضراء والبيضاء. ففي الرابع والعشرين من كانون الاول الماضي، أي قبل تسعة اشهر، قام الجيش السوري بعمليته الأهم تجاه داريا، عندما قطعت قواته الخط الأخير الواصل بين المعضمية وداريا، (وهو شبكة الأنفاق التي دخلناها في "الميادين" انذاك) ما أدى إلى عزل داريا نهائياً عن آخر قواعد الامداد والاستشفاء. ومنذ ذلك الحين بدأ العد التنازلي للتوقيع على وثيقة تسليم المدينة للجيش السوري.

لماذا تأخر سقوطها إلى هذا الحد ؟ ولماذا تخلى المسلحون عن القتال ؟

في الواقع تسارعت الامور منذ شهر شباط /فبراير، حين حاولت المجموعات اختراق الطوق الذي احكمه الجيش على المدينة والوصول الى المعضمية لاستعادة طرق الامداد. لكن الاختراق لم يدم اكثر من بضع ساعات عاد بعدها الجيش لاجكام الطوق. بدأ الجيش بعدها بحملة قضم ،مع تمهيد ناري مطلع الصيف، بعد فشل اتصالات كثيرة للتوصل الى تسوية مع المسلحين. أسفرت الحملة عن مقتل كوادر أساسية في لواء شهداء الاسلام الفصيل الاساسي الذي يقاتل في داريا، خصوصا في قياداته. وخلال الشهر الماضي، أحرز الجيش تقدما واسعا، في قلب المعقل الاخير للمسلحين، وانتزع منهم 30 كتلة بنائية، استطاع من خلالها شق مساحة تجمّعهم الاخيرة إلى نصفين.  ولم تفلح المجموعات المسلحة التي تنادت إلى أكثر من عملية لاختراق الطوق على داريا، ففشلت في فتح طريق باتجاه خان الشيح ،حيث حشد الجيش وحدات كبيرة في المنطقة، برغم وصول النصرة إلى خان الشيخ من دون أن تتقدم أكثر من ذلك. كما أطلقت المجموعات المسلحة عملية "هي لله" وهي عملية يائسة لتشتيت وحدات الجيش وإبعاده عن درعا، جرت في أجواء تراجعية أصيب  فيها المسلحون بهزيمة قاسية، ومن بعدها انهارت معنويات المسلحين الذين بدأوا باتهام بعضهم بالخذلان والخيانة، فأدت الى استسلام من تبقى وتفضيلهم الخروج من المدينة، على مواجهة معركة خاسرة مسبقة.

هل كانت فعلا داريا محاصرة ؟

رغم ما يقال عن الحصار والعودة به الى أربعة اعوام، تدحض الوقائع التي يعترف بها المسلحون أنفسهم، انهم لم يتحملوا حصار ستة اشهر، لانه الطوق لم يغلق على داريا الا في كانون الاول الماضي، اي قبل تسعة اشهر. معركة داريا الحقيقية بدأت منذ تسعة اشهر بالمعنى الفعلي، قبل ذلك كانت استراتيجية المسلحين للحفاظ على داريا شوكة في خاصرة دمشق كانت واضحة، صالحوا الجيش في المعضمية المجاورة، التي كانت تحصل بذلك على امداد "شرعي" من خلال التسوية من دمشق، ومن المساعدات الدولية، وكانت تقوم بايصالها عبر شبكات الانفاق والمعابر المفتوحة والمشافي الميدانية، الى داريا. ولكن التسوية كانت سلاحا ذو حدين، صحيح انها شكلت قاعدة آمنة لامداد مسلحي داريا، ولكنها أغلقت جبهة عسكرية مهمة في خاصرة الجيش، وساعدته على استنزاف المسلحين. وبموجب هذه المصالحة، استطاع الجيش القيام بعملية آمنة من دون الخوف على مؤخرة قواته التي تقدمت من المعضمية نفسها نحو داريا.

هناك من يتهم بالتهجير ؟

التهجير مارسه المسلحون بحق المدنيين في داريا باختيارهم تحويل مدينة كانت تضم اكثر من 255 الف ساكن قبل الحرب الى بؤرة عسكرية في مواجهة دمشق، وفي منطقة شديدة الاهمية، عند مدخل دمشق، قرب شريان المدينة الحيوي في جادة المزة التي تربط دمشق ببيروت، وعند مشارف مدرج مطار المزة العسكري.فوثيقة الخروج من داريا  تثبت أن، 1062مسلحاً 788 مدنياً كانوا في داريا أي 1850 بين مسلح ومدني. أما الأرقام التي تذكرها المعارضة وينشرها المرصد السوري فتتضمّن مبالغة في الأعداد تصل الى 3500 أو 8000 كما قالت الأمم المتحدة والجامعة العربية. وفي المحصلة يتبيّن أن 1421 شخصاً توجهوا الى ادلب لمواصلة القتال ضد الجيش السوري أو ربما للهرب الى تركيا كما فعل قبلهم من انهزم في معارك أخرى، وأن 429 اختاروا العودة إلى دمشق في مراكز الايواء التي افتتحتها الحكومة السورية كما افتتحت قبلها العشرات من مراكز الايواء، خصوصا في كفرسوسة القريبة لداريا لايواء من شردتهم المعارك في داريا،..  فمحاولات الجيش السوري والفرقة الرابعة المتكررة للتوصل الى تسوية تضمن بقاء الأهالي في ديارهم، لم تنجح في ظل مراهنة الجماعات المسلحة على نصر مستحيل.

هل من اثر مباشر على الغوطتين والتسويات في الغوطة والطوق الدمشقي؟

إن وجود داريا في قلب عقدة الربط بين الغوطتين ودخول الجيش إليها سيكون له آثار كبيرة عسكرية وسياسية. فالمدينة تقع وسط مجموعة كبيرة من المدن والبلدات التي أقامت تسويات ومصالحات مع الدولة على طرفي الطوق الدمشقي : في ببيلا، وبيت سحم، ويلدا، والمعضمية وغيرها، وهذه المصالحات التي ظلت متأرجحة، قد تتحوّل بعد هزيمة المسلحين في داريا الى تسويات أكثر صلابة. مع سقوط داريا انتهى رهان الانتظار، ما يدفع إلى الاعتقاد بالتزام المترددين في عقد المصالحة مع الجيش، خصوصا في الغوطة الشرقية. من ناحية اخرى تبدو لهزيمة المسلحين في داريا أثراً كبيراً على تطوير وتزخيم عمليات الجيش في الغوطة الشرقية. فألوية الحرس الجمهوري والدفاع الوطني والحلفاء التي كانت تنشغل بهذه الجبهة، سيكون بوسعها إرسال المزيد من التعزيزات الى الغوطة الشرقية، والاقتراب من حسم معركة دمشق، إما عبر التسويات، وإما عبر العمليات العسكرية ومع استسلام المسلحين في داريا، ينهي الحيش السوري مسارا بطيئا لكن ثابتا افتتحه منذ أربعة أعوام لمنع وصل الغوطتين الغربية بالشرقية وتطويق العاصمة.