تزاوج اليسارية و"لاهوت التحرير" حرر أميركا الجنوبية
شهدت أميركا اللاتينية حركات تغيير ثورية شعبية الطابع في خمسينيات وستينيات القرن الماضي، وكانت الثورة الكوبية عام 1959 من أبرزها. امتدت الحركة لتشمل دولا جنوب- أميركية على فترات مختلفة.
ونشأت منظمات وحركات ثورية يسارية مثل حركتي "التوباماروس" في الأوروغواي، و"كارلوس ماريغويلا" في البرازيل في السبعينيات، ووصل بعضها الآخر بالانتخابات النيابية الديمقراطية لاحقا، كما حصل في تشيلي عام 1970 بوصول سيلفادور الليندي إلى السلطة.
لكن التغيير ما لبث أن تعرض لانتكاسة كبيرة، ولتغيير مضاد، مع حملة من الانقلابات العسكرية الدموية، ونشوء ديكتاتوريات في الجنوب الأميركي بدعم من الولايات المتحدة الأميركية مثل الذي حصل في غواتيمالا بعد أن تشكل النظام اليساري للرئيس جاكوبو أربينز غوزمان.
كان من السهل على أميركا الجنوبية أن تشهد سلسلة حركات تحررية، فالفقر فيها مدقع، والحكام ينهبون ثرواتها لصالح الخارج. انتشرت مظاهر الفقر الكثيرة مثل التسول، واحزمة البؤس، وفقدان الاوراق الثبوتية لناس اضطروا الى الانتقال إلى اماكن أخرى بحثا عن سبل للعيش، إضافة إلى نسبة وفيات الأطفال المرتفعة، وعدم وجود مساكن كريمة، والمستوى الصحي المتدني، وهي عوامل أنتجتها انظمة سياسية واقتصادية واجتماعية.
في مسار الحركات الشعبية حتى العصر الراهن، يلاحظ تزاوج منطقين ساهما في نجاح الحركات التغييرية، وإن بنسب تأثيرٍ متباينة، الحركة السياسية اليسارية-الاشتراكية التي مثلتها كوبا بزعامة فيدال كاسترو، ورفيق دربه تشي غيفارا، وتيار ديني مسيحي الطابع نشأ في الكنيسة الكاثوليكية متفاعلاً مع الفقراء ومتعاطفاً مع قضيتهم الانسانية. ولوحظ استمرار هذا الطابع الأميركي - الجنوبي الخاص مع قادة الثورات أمثال غيفارا، في عصره، وتشافيز في العصر الراهن، فقد ظل قادة هذه الثورات متمسكين بمبادئهم الدينية المسيحية، مع الالتزام بالفكر الاشتراكي الثوري.
لاهوت التحرير
التيار الذي تسبب بالتزاوج الفريد من نوعه عالميا، هو "لاهوت التحرير" الذي "نشأت طلائعه عام 1928، بحسب ما تذكر الخبيرة في شؤون أميركا الجنوبية وفيقة ابراهيم، وانطلق في الكنيسة الكاثوليكية متعاطفا مع الغالبية الساحقة من أبناء المجتمع، وبدأ التزاوج موضوعيا، ومن دون تنسيق مع التيارات اليسارية، التي انتشرت بتأثير مناخات العصر الثورية من خلال ما شهدته آسيا من ثورات كبيرة، ونهوض الاتحاد السوفياتي في مواجهة الامبريالية الأميركية، وظهور الحرب الباردة.
"انطلقت حركة "لاهوت التحرير" همسا، مخافة السلطات الكنسية، واحتمال تعرض أنصارها للاتهام بشق الكنيسة"، تقول ابراهيم للميادين نت، مضيفة أن "أنصار "لاهوت التحرير" أبقوا ميولهم سرية، وركزوا فيها على استحالة تجاهل حال الفقر والتخلف الاجتماعي في الجنوب الأميركي، مع تركيز على عدم اعتبار حركتهم محاولة لشق الكنيسة، أو إنشاء قيم دينية جديدة فيها”. وتضيف أن "المجمع الكنسي الفاتيكاني الذي عقد عام 1962، فتح الأبواب أمام تنامي حركات التعاطف مع الفقراء، وأطلق نداء يومها للانفتاح على العالم، داعيا الكنيسة إلى أن تلعب دور سر الخلاص".
وتقول إبراهيم إن "المجمع الكنسي الفاتيكاني عمل للمرة الأولى على هدم جدران موضوعية وذاتية كانت تعيق الكنيسة من الوصول الى واقع الناس والرعية”.
اندفع حشد من رجال الدين من داخل الكنيسة الفقيرة، أي كنائس القرى والأرياف والمناطق النائية وأحزمة البؤس، لدراسة الموقف الذي يجب على الكنيسة أن تعتمده أزاء الحركات الشعبية، وواقع الفقر المدقع.
ومن المعروف أنه في الستينيات كانت الكنيسة محافظة، ولكن هذه المرحلة ترافقت مع انتصار للثورة الكوبية عام 1959، ومع انتصارات لحركات تحررية في افريقيا، والمكسيك، والارجنتين ايضا، فأثر ذلك في موقف الكنيسة التي قبلت بإعادة النظر في تعاطفها مع تحركات الناس، ساهم بذلك استشهاد شي غيفارا وما سببه من تعاطف كبير مع الفقراء.
في هذا السياق، تشير ابراهيم إلى حدث هام في سبعينيات القرن الماضي حين، "عقد اجتماع بين 55أسقف في منطقة "ميديين" في كولومبيا، تركز البحث فيه على غنى الإيمان عند الوقوف الى جانب الفقراء، ومساعدة هؤلاء الملايين بإيصال صرختهم المكتومة”.
استمرت آلام الفلاحين أبناء البلاد الأصليين في التزايد، وهذا برأي ابراهيم، "كان يساعد لاهوت التحرير ليقوى أكثر وأن يسير قدما في فكره وممارسته، وبات التحدث عن الفقراء وآلامهم لدى "لاهوت التحرير" هو التحدث عن الله”.
الفترة الثانية التي بدأ فيها تزايد نمو "لاهوت التحرير" كانت بين عامي 1972 و 1979، عندما اعتمد ناشطوه على توجهات المجمع الفاتيكاني، بينما كانت الانقلابات قد بدأت عام 1973.
وتعلق السيدة إبراهيم على التفاعل بين الثوار و"لاهوت التحرير"، بأنه "اعطى زخما لأميركا اللاتينية لأنه اعطى اشتراكية خاصة لها من دون انسلاخ عن الاشتراكية العالمية. وهذا ما جعل الحركات السياسية في أميركا اللاتينية حركات مختلفة عن مثيلاتها في أي منطقة أخرى”.
وتخلص ابراهيم في معرض حديثها إلى أن "أميركا اللاتينية وكنيستها، قبل لاهوت التحرير ليست كما بعده".