لم يكن ذلك الطفل الأشقر الصغير الذي رأى النور أول مرة في 9 آذار/ مارس من العام 1934، في قرية "كلوشينو" غرب روسيا،يعي أنه وبعد 27 عاماً من يوم ولادته، سيدخل التاريخ ويرصّع اسمه مع عظماء العالم الذين صنعوا حضارتنا الإنسانية.

حينها، لم يعنّ على بال رائد الفضاء السوفياتي "يوري غاغارين"، أنه سيكون أول شخص ينطلق في رحلة إلى الفضاء الخارجي في تاريخ البشرية، وأول شخص سوف يرى كوكبنا الأرض من الفضاء، على متن مركبة الفضاء السوفياتية "فوستوك1".

ورغم تأويلات الغرب وتخرّصاته التي صوّبت على رحلة "غاغارين" وصولاً إلى وفاته،  لا تزال الأسرار والتخمينات تحيط بموته، بعدما وافته المنية في 27 آذار/ مارس 1968، أثناء تحطم طائرة في منطقة فلاديمير شمال شرق روسيا.

ولأول مرة، وفي ذكرى وفاة غاغارين، أماط "أرشيف الدولة الروسية للتوثيق العلمي والتقني" اللثام عن هذه الحادثة عبر نشر لقطات من مسرح المأساة ، وتحدثت صحيفة  "كومسومولسكايا برافدا" ، إحدى  أكبر صحف العالم توزيعاً خلال الفترة السوفياتية، وكان الراحل التاريخي فلاديمير لينين أحد المساهمين في تأسيسها.

اقرأ أيضاً: من شاهد "رسم لينين" على سطح المريخ!؟

واستناداً إلى المعلومات المستقاة من بعد التحقيق الأخير فقد توفيّ الرائد الأول، مع مدربه في الاختبار، وهو طيّار من الدرجة الأولى فلاديمير سيريغين. بعد اختبار مقاتلة التدريب MiG-15. 

الإعلام الغربي يدلو بدلوه...

وفي المعلومات، أعلن غاغارين الانتهاء من الاختبارات، وحصل على إذن للهبوط في مطار تشكالوفسكي.

ولكن، بعد أقل من دقيقة، سقطت الطائرة بسرعة عالية (نحو 700 كم / ساعة) على الأرض بزاوية 50 درجة بالقرب من قرية نوفوسيلوفو في منطقة فلاديمير، وقضى الطياران.

وللتحقيق في أسباب الكارثة، تم على الفور تأليف لجنة حكومية، درس أعضاؤها بعناية جميع الروايات الممكنة لما حدث. وبالفعل، تمكنوا من تجميع 95 ٪ من المقاتلة المحطمة.

وعلى منوال حبكاته،  دخل الإعلام الغربي على مسرى رحلة غاغارين الفضائية مشككاً بها في ظل سباق الولايات المتحدة نحو  الفضاء، وتعددت النظريات والتخرّصات والتأويلات والأخبار، حول مقتله.

 "اصطدام طائر أو منطاد، اقتراب خطير لطائرة أخرى، انتحار"، وغيرها. تم رفضها جميعاً أثناء التحقيق...

فكانت النسخة النهائية أن سبب الحادث هو "تنفيذ مناورة حادة، مع دخول الطائرة في أوضاع طيران فوق الحرجة في ظروف جوية صعبة"، وفق ما ذكرته "برافدا".

لمحة ذكاء... ومعاناة في الحرب العالمية

ولد يوري غاغارين في أسرة فقيرة  بالقرب من غزاتسك،غرب موسكو في روسيا، وقد تمت تسمية مسقط رأسه باسمه سنة 1968 تكريماً له. كان والده نجاراً، أمّا أمه فكانت مولعةً بالقراءة، ترتيبه الثالث بين إخوته الأربعة، أخته الكبرى كانت معنية بتربيته لغياب والديه معظم الوقت لكسب العيش.

كما الكثير من الأسر في الاتحاد السوفياتي، فقد عانت أسرة الشاب المتوقد نشاطاً وحماسةً الأمرّين خلال فترة الحرب العالمية الثانية، إذ فقد شقيقيه أثناء الحرب بعد أن قام الألمان بأسرهما ولم يعودا حتى نهاية الحرب.

لم يتردد أساتذته قطّ، في وصفه بـ "الذكي، المجتهد، المتفاني في عمله"، وترك التحاق أستاذه لمادة الرياضيات بالقوة الجوية للجيش الأحمر أثراً بارزاً على يوري.

أثناء عمله في أحد مصانع الحديد الصلب، تم اختياره لبرنامج تدريب في معهد التكنولوجيا في مدينة رستوف، وخلال وجوده هناك التحق بناد للطيران وتدرب على التحليق بالطائرات الخفيفة، وبدأ اهتمامه بهذه الهواية الجديدة يزداد ويشغل معظم وقته حتى استطاع إتمام وإتقان فنون الطيران بشكلٍ ممتاز، ما شجّعه على الالتحاق بالكلية الحربية للطيران في أورنبيرغ سنة 1955 بعد إتمامه لدراسته في سرتوف.

 بعد تلقيه التدريب الكافي على طائرة ميغ-15، تم تعيينه في قاعدة جوية بالقرب من الحدود النرويجية في إقليم مورمانسك.

في عام 1960، بدأ العاملون على برنامج الفضاء السوفياتي عمليات بحث دقيقة للعثور على الأشخاص المناسبين من أجل تدريبهم وتجهيزهم للمهمه المرتقبة التي ستحدث تغييراً كبيراً على الساحة الدولية، فنجاح الاتحاد السوفياتي في برنامجه لاستكشاف الفضاء يعني أنه قد سبق الولايات المتحدة في أبحاث الفضاء، خاصةً وأن تلك الفترة كانت تمثل تنافساً لامحدوداً بين القوتين العظميين في ذلك الوقت في جميع المجالات والصعد.

وقع الاختيار على 20 شخصاً من بينهم يوري، وقد أخضعوا لشتى أنواع الاختبارات الجسدية والنفسية القاسية لضمان نجاح المهمة، واصطفيّ الشاب القصير القامة غاغارين لكونه الأكثر تميزاً أثناء التدريبات والاختيارات، بالإضافة إلى تمتعه بشخصية لطيفة وبسيطة.

يوري في الفضاء: لننطلق!

في 12 نيسان/ أبريل 1961،  أقلعت مركبة الفضاء "فوستوك" من قاعدة "بايكونور" الفضائية في كازاخستان التي كانت جزءاً من الاتحاد السوفياتي، حيث  صاح غاغارين البالغ من العمر 27 عاماً بعبارته الشهيرة، "لننطلق!".

أصبح يوري أول رائد فضاء يرى الأرض من الفضاء الخارجي على متن "فوستوك 1"، وأثناء وجوده في الفضاء تمت ترقيته من مساعد أول إلى رائد.

اقرأ أيضاً: بدأت بكلمة "انطلق".. 60 عاماً على رحلة "غاغارين" إلى الفضاء

دهش السوفيات والعالم من عودة يوري إلى الأرض سالماً، وأسرع الرئيس السوفياتي الشهير نيكيتا خروتشوف إلى جعل يوري بطلاً قومياً ما زاد من شهرته أكثر فأكثر، ومن نافل القول إن إنجاز غاغارين المبهر، جعل خروتشوف يصدر الأوامر بتسريع برنامج الفضاء السوفياتي. 

ليس ذلك بغريب، خاصة  وأن رحلة "غاغارين" جاءت بعد إنجاز سوفياتي في 3 تشرين الثاني/ نوفمبر 1957 حيث تمّ إرسال أول مخلوق إلى الفضاء الخارجي، وذلك على متن مركبة الفضاء السوفياتية "سبوتنك-2".
 
وبينما دخلت الكلبة "لايكا" التي أطلقها الروس سباق الفضاء فكانت أول مخلوق ثديي يسافر إلى المجرات، أصبحت المخلوقة اللطيفة ظاهرة عالمية ورمزاً للتضحية الوطنية، وأقامت لها روسيا نصباً تذكارياً عام 2008.

وكان الاتحاد السوفياتي بدأ برنامجه الفضائي معتمداً في تجاربه على الكلاب، في حين اعتمد  الأميركيون  على القردة.

خلدت ذكرى الكلبة لايكا عن طريق نصب تذكاري في منشأة «ستار سيتي» الروسية المخصصة لتدريب رواد #الفضاء في عام 1997، عبارة عن تمثال لها وُضع على قمة صاروخ فضائي pic.twitter.com/w9Va8Kr0iS

— منشور (@manshoor) November 6, 2018

رحلة الـ 108 دقائق رصّعت مسيرة الاتحاد السوفياتي بالمجد، لا بل أوصلتها حينذاك إلى السمت... كما أرخت بظلالها الوارفة على شعوب العالم، فأمسى يوري بعد عودته إلى الأرض أحد أهم المشاهير الأممين وراح يجول العالم، انتُخب نائباً في المجلس السوفياتي الأعلى إلى أن عاد مجدداً إلى "ستار سيتي" الروسية ليساعد في تصميم مركبة فضائية قابلة للاستعمال لأكثر من مرة....

الرائد العالمي في "مصر عبد الناصر "

زار غاغارين العديد من الدول من بريطانيا وفرنسا وصولاً إلى الهند والمكسيك، وأقيمت له احتفالات ونصب تذكارية.

وفي العام 1962، وطئ الرائد العالمي الأول أرض "مصر عبد الناصر"، بدعوة رسمية من الحكومة المصرية، فكان آلاف المصريين في استقباله خلال جولاته الشعبية والسياحية ومنها الأهرامات في الجيزة.

الرئيس الراحل جمال عبد الناصر استقبل "ضيف مصر"  مع عائلته في بيته بمنشية البكري بمصر الجديدة، وأهداه  "قلادة النيل"، وهي أرفع وسام مصري "لأول رائد فضاء في العالم؛ تقديراً لمكانته العلمية والبطولية".

اقرا أيضاً: هذا ما تشاهدونه في منزل جمال عبد الناصر

وبعد 58 عاماً من تكريمه على يد الرئيس الراحل جمال عبد الناصر،  احتفلت وكالة الفضاء المصرية عام 2020 بإزاحة الستار عن تمثال أول رائد فضاء في التاريخ للروسي، وهو من تصميم الفنان إليكسي ليونوف.

انتصار روسي... وإقرار أميركي صاغر 

نَقلت مهمة غاغارين، التي استغرقت 108 دقائق، عصر الفضاء إلى مستوى جديد، وشكلت إنجازاً تاريخياً للاتحاد السوفياتي، الذي تغلّب على الولايات المتحدة في سباق متقارب لإطلاق رجل خارج الغلاف الجوي للأرض.

ومن نافلة القول،  كانت رحلة غاغارين الفضائية بالنسبة إلى الشعب السوفياتي (والروسي) بمنزلة "انتصار مماثل للانتصار على الألمان في الحرب العالمية الثانية". وظلت رحلته مصدر فخر وطني منذ 12 نيسان/ أبريل 1961، ورمزاً لشجاعة الدولة وبراعتها التكنولوجية. 

اقرأ أيضاً: هكذا تم إحياء ذكرى أوّل إنسان انطلق إلى الفضاء الخارجي

بوتين وكريمة غاغارين

وفي أيام الاتحاد الروسي، أقيم تمثال ضخم له في جادة لينين في موسكو. بعد تعيين الرئيس فلاديمير بوتين لكريمة يوري مديرة لمتاحف الكرملين في العام 2001، تزامناً مع الذكرى الأربعين لرحلة والدها.

 وفي  9 نيسان/ أبريل 2021، وفي مهمة تكريميّة بمناسبة الذّكرى السّنوية السّتين لرحلة يوري غاغارين،  التحمت كبسولة "سويوز أم أس-18" مع رائدي فضاء روسيين وزميلهما الأميركي، بـ "محطّة الفضاء الدولية" التي حلت محل المحطة الروسية "مير" إذ كانت روسيا  السباقة في إنشاء محطة فضائية، رغم المحاولات الأميركية ( خاصة بعد العملية العسكرية في أوكرانيا) للالتفاف على "روسكوسموس".

اقرأ أيضاً: العقوبات على روسيا تنذر بسقوط محطة الفضاء الدولية.. لماذا؟

😃 All smiles to kick off Friday morning!

With the Soyuz hatch opened at 9:20am ET / 1:20pm UT, the @Space_Station crew greets their newest residents – Mark Vande Hei (@Astro_Sabot) and Oleg Novitskiy and Pyotr Dubrov of @Roscosmos.

Watch live: https://t.co/A8u9sWkjMI pic.twitter.com/FzZCHZ2SXX

— NASA (@NASA) April 9, 2021

* المراجع:

* مرجع أساسي وترجمة: صحيفة  "كومسومولسكايا برافدا"

- روسيا والعرب.

- إزفستيا.

- "اليوم السابع" المصرية.

- الأهرام المصرية.