حرفة طَرْق النحاس تتراجع في لبنان
طواعيّة النحاس، وليونته، وتجلّيه بلونيه الأحمر والأصفر، ألهم صُنّاعه المهرة في التفنن بتخريج أوعية مختلفة الأحجام والأشكال، وحفره بما يزيده جمالاً.
تتعرّض حرفة تعدين النحّاس لضغوط اقتصادية كبيرة في ظل الأزمة التي يعيشها لبنان، واضطر النحّاسون لتباطؤ التصنيع، بينما توقّف البعض.. على أمل انفراج.
وتصنيع النحاس الذي يعتبر إحدى أقدم المهن في التاريخ، صمد بوجه مختلف التطورات نظراً لما تتمتّع به المادة من مميزات، جعلت منه حاجة لا استغناء عنها، وطوّرها صنّاعها بفضل مرونتها، وطواعيّتها، وتماسكها، وصلابتها، ومقاومتها لمختلف العناصر الطبيعية: عناصر متعددة تتجمّع في مادة واحدة دون أي مادة أخرى.
طواعيّة النحاس، وليونته، وتجليه بلونيه الأحمر والأصفر، ألهم صُنّاعه المهرة في التفنن بتخريج أوعية مختلفة الأحجام والأشكال، وحفره بما يزيده جمالاً، ويمكّن من تلبية كلّ حاجات الانسان، البيتيّة منها والصناعيّة، لذلك صمد صُنّاعه.
ويفيد محمد عبد العزيز عزّو، وهو من العائلات العريقة العاملة في النحاس، "الميادين نت" أن العمل تراجع في السنتين الأخيرتين بنسبة 80%، فقد ارتفعت التكاليف بطريقة أضعفت قدرتها على المنافسة أمام بقية الصناعات والأسواق.
ويقول إن عمله بات مقتصراً على بضعة قطع يتولّى تصنيعها شخصيّاً مع ابنه، بينما غادر العُمّال والحرفيّون الـ 10 الباقون المحترف، فتراجعت الحركة، وخفّت أصوات الطرق التي كانت تصمّ الآذان في مشغله.
النحّاسون يقاومون
لا يزال عزّو يقاوم إلى جانب عدد من النحّاسين في سوق القلمون، التي تبعد 5 كيلومترات جنوبي طرابلس اللبنانية، حيث لجأت عدة عائلات تعمل بالنحاس قادمة من سوق النحّاسين الطرابلسي التقليديّ، الواقع أسفل منحدر القلعة، والذي كان يعجّ بالحركة، والضجيج على مسافة زهاء 200 متر، اصطفت مشاغلها ومعارضها على جانبي السوق حتى سبعينات القرن الماضي.
ونتيجة لتطوّرات الحياة العامة، والازدحام، لم يعد الوصول سهلاً إلى سوق النحّاسين، وتراجعت أعماله تدريجياً بحلول الأحداث اللبنانية وتطوراتها، فبدأ الصنّاع يغادرونه، إما إقفالاً، أو بحثاً عن مراكز أفضل، فكان الخيار الأوّل طريق عام القلمون حيث عبرت الطريق الدولي نحو بيروت.
ضربة جديدة للحرفة
لكن سوق النحّاسين ظلّ يحمل اسمه، وتُمارَس فيه مختلف المهن كالتنجيد، والنجارة، وصناعة الحلويات، ولم يبقَ فيه سوى مشغل ومحل عرض واحد، يحتل عدة واجهات على الرصيف يعود لإحدى العائلات العريقة في النحاسة، وهم من آل طرطوسي.
تفرّق أحباب السوق، ومنهم من انتقل إلى أي مكان آخر في الأحياء الحديثة في المدينة.
بعد مرور سنوات على بدء انتقالهم إلى طريق القلمون الدوليّ، تعرّضت الحرفة إلى ضربة جديدة بتحويل الطريق العام عن موقعه، حيث بات عبور الطريق الدولية يتم في منطقة عالية من البلدة بعيداً عن السوق، فتراجع الطلب فيه، وباتت أعماله مقتصرةً على الطلبات من قبل تجّار النحاس الذين غالباً ما يصدّرونه إلى دول الخليج، وقليلاً إلى السوق اللبنانية.
سنستمرّ مهما كلّفنا ذلك من صعاب
لكنّ عشّاق النحاس، وحرفة الآباء والأجداد غالية على آل عزو، كما قال محمد، لذلك سنستمرّ بها مهما كلّفنا ذلك من صعاب، وأنا وابني بقينا لوحدنا نصنع النحاس، وأدواته، بعد مغادرة غالبية العمال العمل.
في محلات حسون على الجهة المقابلة، يجلس أصحاب المحل يرتشفون القهوة لأن "لا عمل لدينا نقوم به"، كما قال بلال، بينما فَرُغ المشغل أسفل المحل من الحرفيين.
لكن عند محل آخر لآل حسّون على بعد 100 متر تقريباً، وجاره من آل طحلة، فلا يزال العمل مستمراً، وطرق النحاس يسمع في الأرجاء، وقال محمد حسّون إن "العمل تأثّر كثيراً بالأزمة، لكن ليس لنا خيار سوى الاستمرار بانتظار الفرج".
تنمو متعة العمل، والتفنّن به، مع الصنّاع، وتصبح الحرفة ذوقاً، وجمالاً، ومتعةً يتعلّق بها محبّوها، والمدمنون عليها، لذلك تراهم في مشاغلهم يصنعون ما يريدون من النحاس، "فهو ليّن، نحضره صفائح بسيطة كالورق أو الكرتون، لكن بأسماك مختلفة، نعطيها الشكل الذي نريد، وننقش عليه ما نشاء"، يقول عزّو.
العدة محلية وبسيطة
وما يسهّل العمل في الحرفة بساطة العدّة التي تقتصر على السندان، وبعض المطارق، والأزاميل، وهي تُصَنّع منذ القدم في المدينة في سوق قريبة من سوق النحّاسين، هو سوق الحدادين حيث لا تزال بضعة مشاغل تعمل على الطريقة العربية التقليدية.
عزّو والطرطوسي وحسون وطحلة وسبسبي عائلات لاتزال تعمل بالنحاس إن في السوق القديم داخل طرابلس، أم في سوق القلمون، جلّهم أنسباء، يتفنّن كل منهم بتصنيع أشكال خاصة به.
بعض مستجدّات دخلت على صناعة النحاس، منها تأمين نحاس غير قابل للصدأ، مع العلم أن صدأ النحاس، أو أكسدته، والتي تُسمّى بالزرنيخ، سامّة وقاتلة، ما أنتج حرفة موازية له هي "التبييض"، أي طلاء النحاس بالقصدير منعاً لـ"التزرنخ".
ومن التقنيات التي أدخلها الحرفيون على النحاس، هو التنزيل، أي حفر النحاس بأشكال أو حروف عربية يتم تنزيل مادة أخرى فيها بلون مختلف، فتعطي البضاعة المنتجة قيمة زائدة، ومن المواد التي يتم تنزيلها هي الفضّة التي تعطي رونقاً جديداً متميّزاً للنحاس.
عند حسون أشكال بيضاء، منها الألمنيوم المحفّر، وهو رخيص مقارنة بالنحاس، والمفضّض- المغطّس بالفضة- يعطي لمعة جميلة، لكنّه لا يزيد كثيراً عن سعر النحاس.