"المشحوف" العراقي العريق يقاوم الاندثار

من نافل القول، أن دورة الحياة في الأهوار لا تكتمل إلا بوجود "المشحوف"، هذا المركب العتيد العريق الضارب في تاريخ حضارة بلاد ما بين النهرين، و الذي من دونه لا يمكن التحرك في الترع المائية المترامية الأطراف في أهوار العراق.

  •  مركب
    مركب "المشحوف" العريق

تمخُر عِباب نهر دجلة في بغداد مراكب "مشحوف" خشبية يقودها شبان عراقيون في مقتبل العمر، دعماً لجهود فنّان يسعى للحفاظ على هذه القوارب التقليدية التي تعود الى أيام السومريين.

ويؤكد الرسام والنحات، رشاد سليم، مؤسس جمعية "سفينة" غير الحكومية ضرورة إنقاذ "هذه الملامح الأساسية من حضارتنا التي لا تزال موجودة منذ 4000 أو 5000 عام، من الانقراض".

ولينتشل من غياهب النسيان هذا القارب المهدّد خاصة بعد جفاف الأنهر،  منذ عقود، وأيضاً من جراء انتشار المراكب التي تعمل بمحركات، دفع رشاد نحو إعادة صناعة المشحوف عبر التعاون مع أندية للألعاب المائية أو تأسيس فرق للشباب تعنى بالإبحار على متن المشاحيف.

 ويحاول فنانو وصانعو " المشحوف" الحفاظ على هذا الإرث من خلال مراكز وورش تعليم للأطفال والشبان، لتناقل صناعة القوارب ومنع زوالها.

قوارب عمرها أكثر من 4000 عام!

 والمشحوف هو مركب مصنوع من الخشب يتخذ شكل هلال رفيع ذي مقدمة ضيّقة تعلو عن سطح المياه، وهو حافظ على تصميمه "منذ عهد السومريين"، الذين حكموا جنوب بلاد ما بين النهرين منذ آلاف السنين.

اقرأوا أيضاً: "أنقذوا الأهوار".... في لوحة من الجو

تشتهر مناطق الأهوار في جنوب العراق بصناعة الزورق الرشيق أو "المشحوف" كما يسمى، وهي صناعة قديمة توارثتها الأجيال منذ القدم، قبل انحسار صناعة المشاحيف بشكلٍ واضح منذ عمليّات تجفيف الأهوار في ثمانينات القرن الماضي، ومع جفاف الكثير من الأهوار والأنهر في أنحاء العراق بسبب انخفاض مناسيب المياه، اختفى الكثير من الورش الخاصّة بهذه الصناعة التراثية.

ويعود تاريخ المشحوف السومريّ إلى الحضارة السومريّة، التي بزغت في العراق قبل نحو 5000  عام قبل الميلاد، حيث صنع سكّان العراق القديم المشاحيف من مادّة القار.

ولا زالت حتى الآن وسيلة سكان الأهوار الوحيدة للتنقل، كما تعتبر إحدى أهم مصادر رزقهم، حيث يصطادون بواسطتها السمك والطيور، وينقلون بها منتوجات حيواناتهم الى الأسواق.

من القصب ... إلى الخشب

صنعها السومريون من القصب والبردي وأغصان الأشجار الطرية أما اليوم فالمشاحيف تصنع من الخشب المحلي مع الخشب المستورد المطلي بمادة القير، ومؤخراً صار بعض النجارين يصنعها من مادة الفايبر كلاس المستوردة.

يجدر القول في هذا المضمار، أن الحياة في الأهوار لا تكتمل إلا بوجود المشحوف، هذا المركب العريق الذي من دونه لا يمكن التحرك في الترع المائية المترامية الأطراف في أهوار العراق.

  • "المشحوف" العراقي لنقل البضائع والمحاصيل

هناك أنواع عدّة من المراكب يميّزها الناس من خلال شكلها وطريقة صنعها، ومنها: "البلم المشحوف" لنقل الأغراض المختلفة. "الكعد" لنقل الناس. "السمكي" لصيد الأسماك. و"بلم الجلبوت" للنزهات النهريّة.

 التسمية تكون بحسب الوظيفة التي تؤديها الزورق، فمنها (الطرادة) وهو زورق سريع الحركة، وتتسع لعدة أشخاص، وتمتاز بطول مقدمتها وانسيابيها. والـ (كعدة) طويل الحجم، وهي من المشاحيف التي يستعملها الشيوخ والوجهاء. والطرادة العادية تعمل بمثابة (التاكسي)، لسكنة الأهوار والأنهر الرافدة للأهوار. و(الشختورة) يكون كبيرا ومزودا بمحرك آلي.

اقرأ أيضاً: جفاف نهر دجلة ينذر بأيامٍ عِجاف في العراق

وهذا النوع ازداد الطلب عليه مؤخراً بعد عودة عدد من سكان الأهوار. وهناك مشحوف يتسع لشخص واحد (الهويري)، وهو سريع الحركة لصغر حجمه وممكن حمله بسهولة، وهو مخصص للقنص وخاص لصيادي الطيور.

وأما البلم وهو أقصر من الطرادة وخاص للأنهر فقط وغير مخصص للأهوار.

قيادة المشحوف

وقيادة المشحوف في المياه المفتوحة، تكون بواسطة مجذاف خشبي (غرافة)، وخاصة عندما (تنحدر حدار) يعني تسير وفق حركة سير المياه، ولكن عندما (تغرب تغريب)، أي يكون تحرك المشحوف عكس اتجاه سير المياه يستخدم المردي، كما له أيضاً استخدام آخر عندما يحشر المشحوف بين الحشائش، أو بين الزوارق عند الضفاف يساعده المردي على الحركة الأولى، كما للمردي حضورا في التراث الشعبي والكثير منا سامع المثل الشعبي الأحوازي الذي يقول:(دفعت مردي، وبهوا شرجي)،

و"المردي" وهو مجداف على شكل عصا طويلة تستخدم في تحريك القوارب الصغيرة، عن طريق ركز طرفه السفلي في قاع الماء، فيدفع الماء إلى الخلف لكي يتقدم القارب إلى الأمام.

وقد ذكر في الملحمة التاريخية جلجامش، حين طلب أورشنابي ملاح بحيرة مياه الموت منه صناعة المئات من المردي، طول الواحد منها ستين ذراع، ويستخدم المردي بشكل كبير في الأهوار .

  • صناعة
    صناعة "المشحوف" العراقي مستمرة

أما الدانك (الدانگ) هو أكبر المشاحيف، ومخصص لنقل الحمولة وحمل المنتجات الزراعية، ومنها الرز (الشلب)، وقيادته صعبة عندما يكون محمّل، ويسير عكس اتجاه تدفق المياه (تغريب) في الهور، وفي هذه الحالة يكون الجر بواسطة الشاروفة، وهي حبل طويل وقوي يمسكه شخص يسير مشيئاً على الأقدام على ضفاف النهر، ويجلس شخص آخر في مؤخرة المشحوف، ويضع المجذاف الخشبي (الغرافة) في الماء، ويتحكم باتجاه سير المشحوف حتى لا يصطدم بالجرف.

ورد اسم المشحوف في الكثير من القصص والحكايات والأشعار والأغاني الأحوازية والعراقية وامتهن الكثير من أهالي البسيتين مهنة نقل الركاب (معیبرچي).

للمشحوف أضلاع داخلية مقوسة، تتفرع من محور مركزي ينتهي ببوز طويل يسمى العنق، وهذا يشق الطريق عبر البردي والقصب، ويطلق هذا الاسم عموماً على قوارب الأهوار.

الطريقة الاعتيادية لتحريك قوارب الأهوار، هي التجذيف الذي يقوم به رجل، أو رجال جالسون في مؤخرة القارب، بينما يقوم رجل في قيادة القارب بدفعه بالمردي، تكفي لتسيير القارب من دون مجذافين إذا كان بيد عارف لمهنته، وكل سكان الهور يعرفون قيادة المشحوف.

و يوجد حالياً 7 أندية مائية لكل منها 8 مراكب، تتوزع بين بغداد ومحافظة بابل (وسط) ومحافظات أخرى في جنوب العراق.