الحدادة العربية مهددة بالانقراض
الحدادة العربية حرفة تاريخية واكبت الانسان منذ عصر الحديد، وتطوّرت تقنيّاتها مع مرور الزمن، لكنها بقيت تعتمد على المعدّات البسيطة، والتقنيّة اليدوية، تكمن صعوبتها في قساوة العمل، وظروفه، وفي اكتساب تقنيات معالجة الحديد الغريبة.
تستمر حرفة الحدادة في مدينة طرابلس اللبنانية عبر بضع محلات لا تزال قائمة قرب بعضها على الحافة الشرقيّة لمجرى النهر الذي يعبرها هابطاً من أعالي الجبال المجاورة، والمعروف بنهر "أبو علي"، حيث كان سوق للحدادة العربية، يتوسط الطريق العام بين سوق الخضار وقلعة المدينة التاريخية.
في مشاغل الحدائد، يمكن مشاهدة ما لا تراه العين خارجها، حيث يجري تطويع الحديد تحت الزنود المفتولة، والنيران المتأجّجة بالفحم الحجري، وعلى سندانٍ في كلّ مشغل، مشهديّة كيف يخرّ الحديد صاغراً، فاذا الحديد الأسود، الصلب، الذي لا تقف بوجهه قوة، طريٌّ، رخوٌ ككتل نار حمراء تتحوّل تحت المطارق الى أدوات نافعة لمهمات شاقة تنتظرها في الحقل، أو في ورش البناء.
تراجُع أمام الحدادة الأفرنجية
والحدادة العربية حرفة قديمة العهد، تراجعت كثيراً أمام الحدادة الأفرنجية التي تعتمد على الآلات الكهربائية، وبينما كان للحدادين أسواق تسمى باسمائهم، وعائلات تتكنّى بها، لم يبقَ منهم إلا محترفات قليلة، توارثها الأبناء عن آبائهم، واجدادهم.
طريقة تسخين الحديد إلى حدود الذوبان، تعتمد الطريقة القديمة، ويستخدم فيها الفحم الحجري، يوضع على فوهة كور (منفاخ)، يديره الحداد بقبضته، ويظلّ ينفخ فيه حتى بلوغ حالة الذوبان، فيصبح الحديد مطواعاً يمكن إعطاؤه الشكل المراد بحِرَفيّةٍ عالية، وخبرة طويلة.
بعض الحدادين أجرى تحديثاً على عمله مستخدماً منفاخاً كهربائياً يتولى تأجيج النيران لدرجة الاتّقاد قبل وقوع أزمة الكهرباء.
يشكو الحدّادون أنه لم يعد هناك من يرغب في تَعَلُّم الحرفة من أبناء الجيل الجديد، نظراً لقساوتها، وللدخائن والغبائر المتصاعدة منها بما لا يستطيع تحمّله أبناء جيل الكومبيوتر والانترنت، فالزنود المفتولة ليست لأبناء الجيل الجديد، ودخان الفحم الحجريّ الذي ينفثه الكور لا يتحمل عبئه، وقساوته الا الحدّاد الذي تحوّل محترفه الى جدران، وشبابيك، وأبواب سوداء قاتمة مع مرور الزمن.
تناغم في عملية التناوب على الطرق
يظهر الحدادون ببشرة داكنة، سمّرت بشرتهم غبائر الفحم، وحرارته المتوهّجة في محترفاتهم الصغيرة التي لا تزيد مساحة إحداها عن سبعة أمتار مربّعة، مع ارتفاع لا يزيد عن متر ونصف المتر.
العاملون يشكون من تغيّر الأحوال، وتكاليف العمل، مقابل مردود خفيف، فاقمت حالهم المضاربة الخارجية.
والحدادون، أو من تبقّى منهم، يتراوحون بين المنافسة والتعاون. المنافسة للحصول على الزبائن، وتأمين البيع، والتعاون في الحصول على قطعة لا يمكن لمعلم واحد إنتاجها بمفرده.
يقف وليد وجاره سليم قبالة بعضهما، يتناوبان على طرق حديدة وضعاها على السندان في حركة متناسقة، ومتناوبة. طرق مُزعج، وسريع وأصوات عالية، لكن ثمّة تناغم في عملية التناوب على الطرق.
وليد الحاج-حداد منذ 53 سنة- وهو الأعتق بين من تبقى من حدادين، يستعين بجاره أحياناً عندما يريد تصنيع قطعة كبيرة الحجم.
يشرح أنه بعد رفع حرارتها على النار، يمسك كل منهما بمطرقة كبيرة الحجم تُعرّف بـ "المهدّة" التي تستخدم لتكسير الصخور، و"هدّ" الحجارة، ويتناوبان على طرقها توصلا للشكل الذي يريدان قبل أن تبرد.
عن آلية العمل يقول الحاج: "نأتي بالحديد من "الكسر"، ونستخدم الفحم الحجري في الوقود. ونصنع كل ما يتعلق بالزراعة، والبناء، وحفر الحجر، ويعدّد مصطلحات المهنة، وما يطلقون على القطع من تسميات، مثل سُكّة الفلاحة، والمنكُوش، والمِنجل، والمَجْرَفة، ومفاتيح وملازم الباطون، والقوارص، والمُخُولة (مُخل)، والجرايد، والأبو الشرد، والشاحوط، والدبورة لنقش الحجر، والشاقوف، والكاج (مقص حديد)، وأسافين الصخر، والمقالع.
صمود الحرفة في وجه الصناعات الحديثة
ويعرب عن ثقته بصمود حرفته في وجه الصناعات الحديثة، رغم المنافسة القوية من الصناعات الجاهزة، ويقول: "هناك قطع لا يمكن أن تستبدل لأن العمال والصناعيين يريدونها بشروطهم الخاصة، وهذه لا تتوافر إلا بالتصنيع اليدوي".
ويضيف: "كانت مهنتي تدرّ ما يكفي من المال لكي أعيش، إلا أن أحداً لا يريد أن يتعلّمها نظراً لقساوتها"، مُبدياً خشيته من أنّ "هذه المهنة هي الوحيدة التي لا يتعلّمها أحد من الجيل الجديد، وهي مهدّدة بسبب ذلك".
ملاصقاً لمحل وليد الحاج، محل آخر لسليم عبدو ذي العضلات المفتولة، والصدر الواسع، تعلّم المهنة من والده منذ 1986، والتزم العمل في هذا المحل الصغير، فطوّر في السنوات السابقة النفخ بالنار بواسطة مروحة كهرباء، وقبل ذلك، كان النفخ يتم بواسطة منفاخ يدوي، ويستخدم الفحم الحجري الذي، كما يقول، "يزعجنا دخانه كثيراً، ورائحته هي من أبرز صعوبات المهنة.
تغطيس العدّة
يتنافس معلمو الحدادة العربية فيما بينهم و" الشغلة بدها معلميّة" عبارة تتردد على السنتهم، فتحويل الحديد إلى فولاذ عمليّة أساسيّة وضرورية، ويُعرف ذلك بـ"السقاية"، وتتّم العملية بتغطيس العُدّة المشغولة، والمرقّقة على النار في الماء "لتشتدّ صلابتها، وتغطيسها هو الذي يتطلب "المعلميّة"، فهناك غطسة كاملة، ونصف غطسة، وهناك "البولاد" الذي يُبَرّد بالهواء، وفي كل حالة يأخذ الحديد لوناً مختلفاً أثناء تبريده.
الحِدادة حرفة تراثية، تاريخية، تتراكم فيها خبرات آلاف السنين،و لا يتقنها إلا أصحاب النفوس الكريمة، والشخصية الأبية، ففيها يتحدّون الصعاب، ولا يلينون أمام الهِنات. لكنها مُهدّدة بشروط الحياة الحديثة التي عوّدت الناس على طراوة العود، والعمل السهل، إلا أن بعض حاجات لا تتحقق إلا في المشاغل السوداء، وفي النيران اللاهبة، وعلى السندان، وتحت المطارق الثقيلة تحرّكها زنودٌ مفتولةٌ، قلّما نجدها بين أبناء الجيل الحديث.