غزة

عاملها الإسكندر المقدوني بقسوة لأنها رفضت الاستسلام، وفيها دفن جدّ النبي محمد.. ما أصل اسم غزة؟

وإنّي لَمُشتاقٌ إلى أرضِ غَزّةٍ
وإنْ خانَني بعدَ التَفَرُّقِ كِتماني
سَقى اللهُ أرضاّ لو ظَفِرتُ بِتُربِها
كَحلتُ بهِ مِن شِدّة الشَوقِ أجفاني

هذا المشتاق إلى أرض غزة هو ابنُها البارّ الذي ولد فيها لأسرة هاشمية يرجع نسبها إلى هاشم بن عبد مناف جدّ رسول الله. كان هذا الابن طفلاً عمره سنتان عندما انتقلت به أمّه إلى مكّة لينشأ فيها ويتلقّى العلوم الشرعية، فبرع فيها حتى أُذِن له بالفُتيا وهو شابّ دون العشرين.

وبعد أن تنقّل بين مكّة المكرّمة والمدينة المنوّرة واليمن وبغداد، حطّ عصا الترحال في مصر حيث ارتفعت منزلته بين أهل الفقه فصار من أعلام الفقهاء وجمع بين النباهة والشعر والأدب والاجتهاد في الفقه، وأصبح أحد أئمة المذاهب الفقهية الأربعة وهو المذهب الشافعي. ذاك هو الإمام محمد بن إدريس الشافعي ابن غزة البارّ الذي لازمه الشوق إليها طوال حياته (767 - 820م). 

وغَزّة هذه المدينة التي سطّرت في تاريخ النضال الفلسطيني ضد الاحتلال الإسرائيلي أروع الملاحم التي نشهد واحداً من أعظم فصولها في هذه الأيام، لطالما ارتبط بها العرب ارتباطاً وثيقاً. فقد كان تجارهم يفدون إليها في تجاراتهم وأسفارهم باعتبارها مركزاً مهمّاً لعدد من الطرق التجارية.

وكانت غزّة هدف إحدى الرحلتين اللتين ورد ذكرهما في القرآن الكريم في سورة قُرَيش "رحلتا الشتاء والصيف"، أي رحلة التجار القُرشيين شتاء إلى اليمن ورحلتهم صيفاً إلى غزّة ومشارف الشام. وفي إحدى رحلات الصيف هذه مات هاشم بن عبد مناف، جَدّ رسول الله، ودُفِن في غزّة في المكان المعروف الآن بجامع السيّد هاشم في حيّ الدرج.

ويذكر في هذا السياق أن الشاعر مطرود بن كعب الخزاعي كان قد ارتكب جناية ولجأ إلى عبد المطّلب بن هاشم فحماه وأحسن إليه فأكثر من مدحه ومدح أهله. وهو القائل:

ماتَ الندى بالشام لمّا أن ثَوى
فيهِ بغزّة هاشِم لا يَبعُدِ
لا يَبعُدَنْ رَبُّ الفَتاءِ يَعودُهُ
عَودَ السقيمِ يَجودُ بَين العُوَّدِ

وكان لموقع غَزّة على ساحل البحر الأبيض المتوسط، وتأتي مباشرة بعد بريّة سيناء، أكبر الأثر في وجودها وبقائها وأهمّيتها. إذ كانت المحطة الطبيعية للآتين من مصر ووجهتهم الشام والمحطة الأخيرة للقادمين من الشام ووجهتهم مصر. أي أنها ملتقى القوافل التجارية وغيرها قبل دخول البادية منها. يستكمل المسافرون ما يلزمهم قبل المرور بالصحراء القاحلة التي ستعترضهم في طريقهم إلى مصر.

وقد أتى ذكر غَزّة في القرون الأربعة الأولى للإسلام عند جغرافيين ورحّالة مسلمين كالاصطخري وبعده ابن حوقل الذي قال عنها: "غزّة بلدة متوسّطة في العِظَم ذات بساتين على ساحل البحر وبها نخيل وكروم خصبة، بينها وبين البحر أكوام رمال تلي بساتينها ولها قلعة صغيرة".

وذكرالرحّالة المقدسي أنها "مدينة كبيرة وبها جامع حسن وفيها أثر عمر بن الخطّاب". أما ابن بطّوطة الذي زار غزّة في القرن الثاني الهجري، وهي آنذاك تحت حكم المماليك، فقد وصفها بأنها "متسعة الأقطار كثيرة العمارة حسنة المساجد الجديدة والأسوار عليها".

كما زارها الراهب الإيطالي فرنسيسكو سوريا شتاء عام 1470م، وشهد هطول الأمطار الغزيرة التي أدّت إلى انهيار نصف بيوتها المبنية من الطوب المصنوع من الطين والقش، ولاحظ أن البيوت التي لم تتهدّم كان قد نما العشب في سقوفها وعلى جدرانها بفعل الحبوب الباقية في التبن. وشبّه حجمها بحجم مدينة بيروجيا الإيطالية. ووصفها بأنها غنية ممتلئة بالسكان وتتوقف فيها القوافل التي تتموّن بالحبوب التي تفيض بها غزة.

وفي العهد العثماني زارها السائح التركي أوليا جلبي عام 1649 وقال: "في المدينة 70 مسجداً ذوو محاريب وفي 11 مسجداً منها تقام صلاة الجمعة". وذكر أن في المدينة "200 سبيل ماء يرتوي من مائها العطشان".
 

وفي العام 1693 زارها الرحّالة والمتصوّف الشاعر عبد الغني النابلسي وأقام فيها 3 أيام زار خلالها قبور الزهّاد والصوفيين، وذكر جامع الجاوي الكبير الذي كان خرباً. وتخلّل حديثه إشارات عديدة على كثرة البساتين والكروم والجنان في غزّة، وقال فيها:

كَلّلَ الزهرُ والنبات حلاها
فكأنّ الخريفَ فيها ربيعُ
غَزّةُ الشامِ قد زَهت بالأراضي
كلّما جادَها السحابُ المريعُ

وتُعتبر غزّة من أقدم المدن في التاريخ وهي مدينة عربية أسسها الكنعانيون القادمون من شبه الجزيرة العربية في القرن الخامس عشر قبل الميلاد. وكانت أقدم وثيقة تاريخية تذكر فيها غزة هي مخطوطة للفرعون تحتمس الثالث (القرن 15 ق م).

أما سبب تسمية غزّة بهذا الاسم فغير مثبت بدقّة. لأن هذا الاسم كان قابلاً للتبديل والتحريف بتبدّل الإمبراطوريات
التي خضعت لها. فهي عند الكنعانيين "هزاتي" وعند الفراعنة "غزاتو" وعند الأشوريين واليونانيين "غزاتي"و"فازا" وعند العبرانيين "عَزّة" وسمّاها الصليبيون "غادرز"، ولم يغيّر الأتراك اسمها العربي"غزّة" وسمّاها الإنكليز "كَازا".

واختلف المؤرّخون في سبب تسميتها بغزة ومعنى هذا الاسم. قال بعضهم إن الاسم مشتقّ من المنعة والقوة (كأنهم يعزونها إلى كلمة العزّة العربية، وتتفق تقريباً مع تسمية العبرانيين لها "عزّة").

ويذهب بعضهم إلى أن معناها الثروة، ويقول آخرون إنها تعني المميّزة والمختصّة بصفات هامّة تميّزها عن غيرها. ويقول  ياقوت الحموي في "معجم البلدان" نقلاً عن بعضهم إن الاسم مشتقّ من قولهم: "غَزّ فُلانٌ بفُلان واعتزّ به، إذا اختصّه من بين أصحابه".

ومهما يكن من أمر فإن العِزّة مقترنة بِغَزّة طوال المدة التي لم تكفّ فيها عن مقاومة الاحتلال الإسرائيلي منذ عام 1967 بمختلف أشكال المقاومة من الحجارة إلى العمليات الفدائية حتى أجبرته على الانسحاب الذليل عام 2005، في إطار خطة فكّ الارتباط أُحادية الجانب كما سمّتها "إسرائيل".  وذلك نتيجة فشل معركة "أيام الغضب" التي أخفقت "إسرائيل" في تحقيق أهدافها بمنع إطلاق الصواريخ من غزة.

ويسجّل أبطال المقاومة الفلسطينية في غزة هذه الأيام أروع الملاحم في قتال الصهاينة في معاقلهم العسكرية ومستوطناتهم وقتل المئات منهم وأسر المئات في سابقة تاريخية نشهد الآن فصولها. 
 

ولا ننس أن غزة كانت على الدوام رائدة الكفاح الفلسطيني وحاضنة الانتفاضات الشعبية على الاحتلال الإسرائيلي ولا تزال انتفاضة الحجارة الأولى التي انطلقت من غزة، ثم عمّت مختلف أرجاء فلسطين المحتلة، ماثلة في الأذهان. وهي التي ألهمت قرائح الشعراء فنظموا فيها عشرات القصائد. وقد اخترنا منها في هذه المناسبة كلمات موجزة لمحمود درويش حيث يقول:  

إن سألوك عن غزّة
قل لهم:
بها شهيد
يسعفه شهيد
ويصوّره شهيد
ويودّعه شهيد
ويصلّي عليه شهيد

ونختم بهذه الأبيات لنزار قبّاني نظمها إبّان انتفاضة الحجارة:

يا تلاميذَ غّزّةَ علّمونا
بعضَ ما عندكم فنحن نسينا
علّمونا بأن نكونَ رجالاً
فلدينا الرجالُ صاروا عجينا
علّمونا كيف الحجارة تغدو
بينَ أيدي الأطفالِ ماساً ثَمينا
يا تلاميذَ غَزّة لا تُبالوا 
بِإذاعاتنا ولا تسمعونا
إضرِبوا إضرِبوا بكل قواكم
واحزموا أمركم ولا تسألونا
قد صغرنا أمامكم ألفَ قَرن
وكبرتم خلالِ شهرٍ قُرونا
 

نعم لقد صدق حدس شاعر الياسمين الدمشقي. فها هم أطفال الحجارة قد كبروا وأصبحوا رجالاً يطلقون الصواريخ بدل الحجارة، ويركبون البحر، ويمتطون جياد المناطيد، ويخرجون مدجّجين من الأنفاق، ويحدثون في السياج الأمني عشرات الثغرات، وينقضّون على تجمّعات العدو وقواعده العسكرية ومستوطناته، ويمعنون بهم قتلاً وأسراً، ويجرجونهم ضبّاطاً ورتباء وجنوداً في شوارع غزة، ليشفوا صدور قوم مؤمنين بحقهم في الحياة والكرامة وتحرير أرضهم المحتلة.

اعتداءات إسرائيلية متكررة على الفلسطينيين في القدس المحتلة ومحاولة تهجيرهم من منازلهم، استدعت انتفاضة فلسطينية عمت الأراضي الفلسطينية المحتلة، وتبعها عدوان إسرائيلي على غزة تجابهه المقاومة بالصواريخ التي تشل كيان الاحتلال.