في "الهاوية"... دبابات إسرائيلية تحت أنظار "الباشق"
طير كبير فوقنا ....انظروا ...انظروا!"..يصرخ الصبي بتلقائية لحظة تسمّره أمام البوابة الرئيسية، فييمّم الجميع نحو السماء، يجيب أحدهم:"هــذا طير الباشق، صديق الشباب،يحرس المكان، لذلك تجدونه شعاراً لمعلم مليتا، لأنه طائر صعب واثق لا يهدأ ولا يعرف الهزيمة".
معلم مليتا السياحي الجهادي يجسّد ذروة انتصار شعب حيّ ومقاومة ماجدة في وجه أعتى قوة في الشرق الأوسط، في أرض عزّة وشرف بقيت معالمها مجهولة على مدى سنين، من تحت الأرض ومن داخل أنفاق حفرت بدماء القلوب وارتوت بعرق الجباه في جوف الصخر.
منذ أشهر، وتحت عنوان "كلّنا للجنوب" شرّع وزير الثقافة محمد المرتضى نافذته "للهوا الجنوبي"، إذ نظم زيارة لمجموعة من الوزراء، بهدف تسليط الضوء على غنى هذا الجزء الغالي من لبنان وروعته، وإشعار أهله لا سيّما القاطنين فيه بأنهم في صلب اهتمامات الحكومة اللبنانية، وذلك بعد التنسيق مع رئيس حكومة تصريف الأعمال نجيب ميقاتي ووزير السياحة وليد نصار.
وضمّت الزيارة كلًا من الوزراء في حكومة تصريف الأعمال: السياحة وليد نصار، العمل مصطفى بيرم، الطاقة والمياه وليد فياض، الصناعة جورج بوشكيان، الاتصالات جوني قرم، الثقافة محمد وسام المرتضى، البيئة ناصر ياسين والشؤون الاجتماعية هكتور حجار.
إلى حيث طرد العدو الإسرائيلي من الجنوب اللبناني عام 2000، ينسى الزائر لمعلم مليتا الجهادي الخلافات السياسية ومحاولات استحضار الفتن المذهبية في لبنان والعالم العربيّ.. والتصويب المقصود على سلاح مقاوم جعل للبنان قيمة وكرامة وحضوراً، ولولا تكاتفه مع سلاح الجيش اللبناني لكانت عاصمة لبنان بيروت اليوم ترزح تحت رجس الاحتلال الإسرائيلي الطامع دوماً في أرضنا ومياهنا وخيراتنا.
نتحلّق اليوم حول أقنـوم من أقـانيم الثالوث الذهبيّ الحامي في لبنان (الشعب، الجيش، المقاومة) على مسافة188 كلم من القدس المحتلة.
طير الباشق "صديق الشباب" !
"طير كبير فوقنا ....انظرو ...انظروا!".... يصرخ الصبي بتلقائية عند وقوفه أمام بوابة معلم مليتا، فييمّم الجميع نحو السماء، ويجيب أحد الشباب المولجين باستقبال الناس ومرافقتهم داخل "مليتا":"هــذا الباشق صديق الشباب في هذه الغابة، وهو لا يزال يحرس هذا المكان، لذلك تجدونه شعاراً لمعلم مليتا؛ لإنه طائر صعب واثق لا يهدأ، ولا يعرف الهزيمة ولا التراجع" !
بمناسبة "عيد المقاومة والتحرير" تتقاطر وفود لبنانية وعربية وأجنبية إلى معلم مليتا الذي افتتحه الأمين العام لحزب الله، السيّد حسن نصر الله، في 21 أيار/ مايو عام 2010.
في هذا المكان بالذات، يدرك المرء كيف هزمت ثلّة من الأبطال المؤمنين الواثقين من قدراتهم أقوى "جيش" في الشرق الأوسط... ويتأكد من تسليم إسرائيلي بالهزيمة عبّر عنه تقرير القاضي الإسرائيلي "فينوغراد" حول أسباب فشل "جيش" العدوان على لبنان عام 2006 . فصغرت رؤوس "جنرالات إسرائيل" بعد السقوط في الوحل اللبناني..!
رجل أردنيّ ثمانيني نطق بالحقّ بعد زيارته معلم مليتا مستنتجاً بحزم: "ما في حرب إسرائيلية على لبنان، أنا متأكد!". موضحاً بلهجة "الختيار" المخضرم: "العرب بجيوشهم الجرارة ما قدروا على "إسرائيل"، واللي بيشوف دبابات العدّو المدمّرة بهالمكان بيعرف إنو إسرائيل رحّ تفكّر مئة مرة قبل ما تهاجم لبنان". وتصرّ إحدى الناشطات الشابات اللبنانيات على اصطحاب عائلتها لزيارة هذا المكان، الذي وصفته بـ"الفريد من نوعه والذي يروي قصّة بطولة حقيقية... والزائر يتفاجىء عند مشاهدته ما تقع عليه عيناه هنا."
وبينما ينهمك سائح أجنبي بتصوير كلّ ما يشاهده، تستغرب سيّدة عربية قادمة من الكويت، كيف تسمح قيادة المقاومة بكشف أسرارها العسكرية أمام الجميع؟! فيجيبها زوجها بعفوية:"لو ما كان عندهم شي أهم ووصلوا لمراحل متقدّمة أكثر... ما كان بيسمحوا بكشف هالأسرار!"
هندسة رائعة و ورود ومياه
"مليتا" هو أول متحف من نوعه يحكي ذاكرة مكان وزمان من تاريخ لبنان، متحف فوق الأرض وتحتها هدفه التعريف عن قرب بالتجربة الفريدة للمقاومة ضد العدو الإسرائيلي منذ احتلاله بيروت في العام 1982.
60,000 متر مربع من الحدائق والأحراج، و4,500 متر مربّع من المساحات المبنية، استغرقت 150,000 ساعة عمل، وشارك فيها 50 مهندساً من مختلف الاختصاصات فضلاً عن 40 مختصاً، وهم من مختلف المناطق اللبنانية.
ممرّ الدخول يبعث على الانشراح، خاصة مع وصولنا إلى بركة مائية مزنّرة بحدائق الورود، فقد حرص مهندسو هذا المعلم على إفراد مساحات واسعة للحدائق التي تتخللها مقاعد حجرية. مئات برّادات المياه في الحدائق والممرات وحتى وسط الغابة الوعرة تروي عطش الزّوار، خاصة وأن الجميع شيباً وشباباً يصرّون على زيارة كلّ زاوية من زوايا المعلم، تحت الأرض وفوقها، وعبر وعر الغابة التي تمتد على مساحة 50,000 متر مربع وصولاً إلى قمة "المطلّ" الذي يرتفع 1,100 متر عن سطح البحر.
قبل المباشرة، لا بدّ من مشاهدة فيلمين في قاعة السينما الخاصة بمعلم مليتا، الأول يحكي تاريخ الصراع مع العدو الإسرائيلي منذ ما قبل نكبة 1948 في فلسطين، مروراً باحتلاله لبنان ثم خروجه منه مهزوماً، بينما يؤرشف الفيلم الثاني مراحل تأسيس "مليتا" قبل أنّ يشدّ الجميع الرحال إلى "المسار"، أيّ الغابة التي كان يتخذها المقاومون ملاذاً لهم فحفروا فيها الأنفاق تحت الأرض ومهدوا الممرات داخلها.
"قصر" السيّد عباس !
في بداية "المسار"، تستقبلنا دشمة الشهيد السيّد عباس الموسوي (الأمين العام السابق لحزب الله الذي اغتاله العدو الإسرائيلي بغارة عام 1992). في هذه الدشمة العسكرية المتواضعة بين صخرتين، لطالما تحصّن فيها ليوجّه المقاومين ويحتضنهم ويشد من أزرهم...وهنا، علّق أحد المغتربين اللبنانيين القادم من أستراليا ساخراً:"هذا هو قصر السيّد عبّاس الموسوي يا جماعة .. مثل قصور المسؤولين والزعماء اللبنانيين والعرب"!
"اللقاء" مع السلاح المقاوم
تتلاقى الألحاظ لمعاينة الصواريخ القصيرة والمتوسطة والبعيدة المدى التي أمطرت المستعمرات والمدن الإسرائيلية في ردّ على عدوان تموز 2006، وتالياً، كان للطائرات المسيرة التابعة للمقاومة النصيب الأكبر من اهتمام الزوّار.
هنا، يبدأ اللقاء مع "سلاح المقاومة". راجمة تطلّ من تحت الأرض، مدفع هاون بين أكياس رملية، مدفع رشاش يروي حكاية أيام من النضال، قاذف صاروخي لطالما ألهب مواقع الإسرائيليين، تجسيد لمقاوم يسدد قاذف الـ "آر بي جي"، مشهد للإسعاف الحربيّ للمقاومة، إلخ... ومع استمرار الانحدار نزولاً نلمح أغطية باطونية لفوهات مغلقة بين الأشجار: فنطرح السؤال البديهي: ترى، إلى أين تفضي هذه الفوّهات؟
في أسفل الغابة، يصطفّ جمع غفير من الزوار منتظرين الدخول إلى الأمكنة الأكثر إثارة وتوقاً، والتي كان يطلع منها المقاومون "كالكوابيس والأشباح" في وجه الجنود المحتلّين.
"حياة ثانية" تحت الأرض!
قشعريرة تسري في الأبدان فتلفح الوجوه نسمة باردة تهبّ من مدخل النفق بسبب التغيير السريع في الحرارة، فضلاً عن قطرات الماء الخفيفة التي تنساب عبر جدران النفق.
نلج عالماً آخر، مفعماً بالإثارة. فالنفق الممتد عمقه إلى نحو 400 متر في الجبل، مضاء بالكهرباء ومزنر في بعض أقسامه بالصفائح الحديدية منعاً لتساقط الأتربة، فضلاً عن مستلزمات التهوئة والإطفاء والسلالم وفوّهات الطوارىء والمخارج الاحتياطية، ولا ننسى وسائل الاتصال عبر شبكة الاتصالات الخاصة بالمقاومة.
يلفتنا مشهد غرفة القيادة والتحكم تحت الأرض، حيث الخرائط والأجهزة والحواسيب وغيرها....
بعد مسير داخل نفق يفضي إلى غرفة زجاجية وضعت فيها أدوات الحفر التي استخدمها المقاومون ذات يوم، رغم وجود "جيش" الاحتلال في المنطقة وبعد مسير على عمق 200 متر، نصل إلى المغارة التي تناوب المقاومون على حفرها وتدعيمها لحمايتها من القصف المعادي على مدى 3 سنوات.
المغارة تضمّ غرف العمليات الميدانية المجهّزة بالخرائط ووسائل الاتصال وأجهزة الكمبيوتر، فضلاً عن غرف الصلاة والمعيشة والراحة.
إلى "خط النار" فـ "الهاوية"!
في بانوراما مشهدية فيما سمّي بـ "خطّ النار" يتم استعراض جزئي لأسلحة المقاومة على طريق صاعد بطول 200 متر يظهر فيها كيف طوّرت المقاومة بنيتها العسكرية منذ 1982، ومزجت بين أساليب القتال الكلاسيكية والفدائية والتقنّيات القديمة والحديثة بمهارة فائقة على الصعد القتالية كافة. لكن، ما استوقفنا عرض قيادة المقاومة للصواريخ المتطورة التي دمّرت وحرقت دبابات الميركافا من الجيل الرابع خلال عدوان تموز/ يوليو على لبنان. فهل حلّ مكانها ما هو أفعل وأمضى؟
ملالات ومدافع مقلوبة!
وفق المهندسون في إعداد "الهاوية"،وهي عبارة عن حفرة كبيرة مثّلت عملاً مشهدياً تركيبياً على مساحة 3,000 متر مربع يجسّد الهزيمة الإسرائيلية، حيث تمّ تشكيله مع بعض مدرّعات العدو وآلياته وأسلحته التي غنمتها المقاومة.
وجاء تجسيد هذه الآليات بطريقة هندسية رائعـة، فمـدفـع دبابة "الميركافا" مربوط، والمدرعات شقّت إلى نصفين، والمدافع قلبت لتغرس فوهاتها في الباطون، أما خوذ الجنود فألقيت ونثرت بالعشرات على الأرض مع شعار "الجيش الإسرائيلي" المخروق.
صور جوية وإحداثيات مدن العدو !
لا يكتمل مشهد "الهاوية" إلاّ بالدخول إلى القاعة التي وضعت فيها غنائم الحرب والعتاد العسكري الخفيف والمواد العينية للجنود الإسرائيليين مع شهادات ومشاهد وصور للخيبة والهزيمة على وجوههم. أما اللافت فهو الخرائط الضخمة لهيكلية "جيش" العدو بالرتب والمراكز وتوزيعها مناطقياً داخل فلسطين المحتلة، مروراً بصور جوّية للمدن والمنشآت الإسرائيلية العسكرية والحيوية وصولاً إلى مفاعـل" ديمونا" النووي،إذ عرضت مع إحداثياتها العسكرية الدقيقة ... وهذا بحدّ ذاته إنجاز هام من إنجازات المقاومة!
وفي هذه القاعة أيضاً، نطّلع على شهادات لمسؤولين وجنرالات إسرائيليين تقرّ بالهزيمة الواضحة في لبنان... قبل أن نشاهد صوراً لجنود يغرقون في الوحل ويبكون ويحملون نعوش قتلاهم.
إلى التلة .... درّ !
وإلى "التلة" درّ بمرافقة "الباشق الصديق"!
هي مساحة مستحدثة فيها نصب يرمز إلى الشهداء، شيّد على أعلى قمة فيها. تطلّ على الكثير من المواقع العسكرية الإسرائيلية السابقة. ومن هذه التلة التي ترتفع 1,000 مترٍ عن سطح البحر نستطيع مشاهـدة "تومات نيحا" في جبل لبنان، فضلاً عن تلال إقليم التفاح، ومن الجنوب يبدو البحر بمنظره الرائع خاصة مع أولى لحظات الغروب.
وفي مليتا أيضاً مكان عزيز على قلوب المقاومين ألا وهو"البئر" التي استخدمها المقاومون لسنوات طويلة، على الرغم أنها كانت توحل لأشهر عدة بفعل تدفّق السيول والأتربة إليها... فكان المقاومون يسمون الماء فيها "ميرندا" بسبب لونه البرتقالي، ومع ذلك كانت الظروف تحكم عليهم استخدامها بسبب قطع الطرقات وخطر اكتشافهم من قبل العدو.
سياحة تحميها القوّة !
في "مليتا" نستشعر مدى قوّتنا كلبنانيين وعرب... لا بل نشعر بعزّتنا في وجه الظلم والشرّ أينما وجدا .... هنا ننسى الخلافات السياسية والطائفية والمناكفات، فنحن في ظل سياحة تحميها قوة الرجال المعجونة بحقّ السلاح في الذود عن الأرض...
وهنا أيضاً، أقيمت فعاليات تجعل الصغار والكبار يستفيدون من المكان فترسخ في ذاكرتهم محبة الوطن وكرامة الإنسان، كما تقام أنشطة من رسم وشعر وحرفيات من وحي المناسبات الوطنية.
ونحن نغادر المكان نشاهد استكمالاً لورشة البناء. هنالك طموح مشروع إقامة "تلفريك" بين معلم مليتا والتلال التي كانت مواقع إسرائيلية في فترة الاحتلال.
"الباشق الصديق" يرفرف بجناحيه حامياً، وها هو يستودعنا السلامة...سلامة لبنان بثالوثه الذهبي: "الجيش اللبناني الباسل، والمقاومة البطلة، والشعب الوفيّ الصامد".... ونسمع من بعيد صدى نشيد "نصرك هز الدني"!