حرفي لبناني يستنهض حرفة الفخار
ثمن قطعة الفخار يبدو أحياناً غالياً مقارنة مع الأوعية البلاستيك، والستينلس، وسواها، لكن إذا تمعّن المرء بمراحل تصنيع الفخار، إضافة إلى فوائده، لاعتبره رخيصاً جداً.
في عصر الحداثة التي قضت على كل ما هو تقليدي، تهدّدت صناعة الفخار التاريخية بالأفول في لبنان، ولم يعد الصغار يتعلمون المهنة من الكبار لأن منافستها مع الأوعية الحديثة، وما يرافق ذلك من "بروبغندا" مناهضة للتقليد، يضعها في موقف ضعيف، فيتراجع الإقبال عليها، ويبقى بضعة معلمين لها يصارعون الزمن.
من أشهر العائلات التي عملت في الفخار عائلة "عَرِيرو" في الميناء بطرابلس اللبنانية، توارث الابناء الحرفة عن الآباء والأجداد، لكن الأبناء راكموا سنوات طويلة من العمل، كثيرُه شاق، ومنه الفنيّ القائم على خبرة طويلة، وباتوا يشعرون أنه من حقهم التوجه للراحة، خصوصاً أن المردود بات رمزياً.
ثمن قطعة الفخار يبدو أحياناً غالياً مقارنة مع الأوعية البلاستيك، والستينلس، وسواها، لكن إذا تمعّن المرء بمراحل تصنيع الفخار، إضافة إلى فوائده، لاعتبره رخيصاً جداً.
الإقلاع عن استخدام الفخار جرى في طوفان أوعية الحداثة ودعايتها، ومظهرها الخارجي، ومع انكشاف مسببات الأمراض، والضرر، للكثير من المواد المصنّعة للأوعية الحديثة، خصوصاً منه البلاستيك والألمنيوم، بدأ كثيرون بالعودة للتقليد، فكان الفخار من الخيارات المفضلة.
مياهه تتحول إلى مادة قلوية
وفي ظل الكلام عن أضرار المواد الحديثة، وما تحمله من إمكانيات أمراض متنوّعة، بدأ بعض الأفراد يتمسكون بالفخار، ويتعلمونه، كما عمدت بعض الجمعيات الاهلية لتعليمه لدى معلمي الفخار، إضافة إلى توجّه الكثر من طلاب الفنون في الجامعات إلى الفخار نظراً لطواعيته، واحتمالاته الفنية، فلجأوا إلى الفواخير يطلبون عجينته، أو يتعلمون صناعته.
من مميزات الفخار أن مياهه تتحول إلى مادة قلوية وليس أسيدية (حمضية)، ما يمنع نمو السرطان في بيئتها، ومنها تفاعله مع الاوكسجين، وتنقيته للمواد المعدنية الزائدة خصوصاً الكلس الذي تتميز به المياه اللبنانية، وسواها من مميزات.
"حركة على الفخار فيها بَرَكة"، يقول معلمها الياس عريرو من الميناء في طرابلس، وعندما يبدأ بالحديث عن الحرفة التي يعتبرها عشقه التاريخي، ولازمها منذ صغره، بينما يشارف اليوم على السبعين، يفنّدها بتفصيلات دقيقة، تكشف أن هذه المهن التاريخية التي طوّرها الانسان منذ القدم، لم تكن صنعة عابرة، بل معقدة، وتحتاج للكثير من الخطوات حتى إتمامها.
يأمل عريرو بديمومة الصناعة، وعودة الحياة إليها "بعد أن لاحظنا أن هناك أجيالاً جديدة ترغب بتعلمها"، كما قال لـ"الميادين نت"، وكأنه يذكّر بأن حرفته "قد تكون أولى الصناعات التي اخترعها الانسان القديم، ابتداء من عصر ما بعد "الحجري”.
وفي حديثه شَجَن الخوف عليها لأن القيمين على الحياة العامة لا يعطون أهمية للحرف التقليدية، ويقترح أن تخصّص لها فروع في المهنيات لتعليمها للأجيال الجديدة، دون الاقتصار على الفخار، بل على مختلف الحرف.
مراحل تحضير التراب
يشرح عريرو مراحل صناعة الفخار، ومشقّاتها، ويبدأ بمرحلة تحضير التراب، وذلك "باستقدام أصناف معينة منه، فليس كل تراب صالحاً لها، ونبدأ بتنقية التراب من الاوساخ العالقة فيه، وغربلتها، ثم ننقعها في برك واسعة مع المياه لكي تجري تصفيتها، ونتركها في الشمس لتتخمّر، وفي هذه الأثناء نقوم بعجنها، و"دعكها" بأساليب شاقة للحصول عليها ناعمة، وبعد عدة أيام، تكون المياه قد جفت عنها، فنبدأ بجمع التراب-الوحل، ونقوم بعجنه، ليصبح صالحاً للقولبة التي نريد”.
المرحلة الثانية، هي مرحلة القولبة، أي إعطاء الفخار الشكل الذي نريد، كوعاء طبخ، أو إبريق لشرب المياه، أم مقلاة، أم مزهرية، وهذه مرحلة تفنن تأخذ مداها الأقصى، عدّتها يدا الفاخوري، وخيط. يضع قبضة معينة من العجينة على طاولتها، وعليها صحن حديد، ويحرك الصحن بقدمه بدولاب تحت الطاولة، وبينما يدور الصحن على الطاولة، يمارس الفاخوري على العجينة ضغوطاً بيديه، واصابعه، فتتحول إلى الوعاء الذي يريد.
يخرج الشكل الذي يريده، وبخيط يتولى قطع الفخار عن الصحن، ويضعه تحت أشعة الشمس ليجف، وتستغرق العملية بضعة أيام ليقسو، وذلك حسب قوة الشمس وديمومتها.
يظل الفاخوري يصنع القطعة تلو القطعة من أصناف مختلفة، ويستغرقه ذلك بضعة أيام أو أسابيع، ومتى بلغ العدد حجماً متناسباً مع سعة الفرن، بدأ التحضير للشوي في الفرن، وهنا القصة الأصعب في صناعة الفخار.
الفرن حجرة من الطين والفخار والحجارة
أعلى الفرن حجرة من الطين والفخار والحجارة، تقوم على سطح الأرض، توضع فيها القطع التي اكتسبت صلابة بالتشميس، ولها بابان، خارجي يتم إقفاله، وآخر داخلي يتم سدّه بالطين والفخار بإحكام. تحتها تجويف كبير مقفل بإحكام أيضاً، هو بيت النار الذي يبدأ من نقطة منخفضة تحت مستوى سطح الأرض، وفي أسفله فتحة يتم عبرها إدخال الوقود لتسخين الفرن، وعبره طبخ قطع الفخار المتجمّع أعلاه.
يبدأ الياس عريرو إحدى أكثر المهمات مشقّة بين كل المهن، يجمع أكواماً من نشارة الخشب قربه، يُشْعِلُ الفرن، ويبدأ الساعة الثانية قبل الفجر، وهو جالسٌ قعوداً بضخّ نشارة الخشب في الفرن ويستمر حتى الثانية بعد الظهر، ولا يستطيع التوقف ولا التأخر بتلقيم النشارة للفرن وإلا تصدّعت قطع الفخار أعلاه في حال تراجعت حرارة الفرن.
اثنا عشرة ساعة يقضيها المعلم بتلقيم الفرن، قبضةً قبضةً، في حركة دائبة، دون توقف، لإبقائه متوهِّجاً، وهو اختبر المدى الذي يجب أن يتعرض الفخار له من الحرارة.
وفي محاولة للتكلم معه أثناء عمله، شرح عمله دون توقّف، حتى إذا حلّت الساعة الثانية بعد الظهر، تكون كومة النشارة قد نفذت، فيتوقف عن العمل.
الانتهاء من وجبة الفخار
يترك عريرو قطع الفخار في حجرتها أعلى الفرن لعدة أيام ريثما هدأت حرارة الفرن، وتراجعت، قبل أن يعمد إلى فتح باب الحجرة الأعلى وإلّا تعرض الفخار للتشقق، والتلف.
يعرف عريرو توقيت فتح الباب على قطع الفخار بعد أن تكون حرارتها قد تراجعت كثيراً، وبات بالامكان الإمساك بها، يفتح الباب الخارجي، ثم يزيل طبقة الطين عن الحجرة، ويبدأ بإخراج القطع، ويتركها في الشمس من جديد، ليتم تبريدها بالتدريج، ولتكتسب صلابة أكثر.
بذلك تنتهي وجبة فخار من عدة قطع، يدخلها المعلم إلى محترفه، يزيل شوائباً قد تكون علقت بها، ويصففها حسب أصنافها على الرفوف، ويطلي ما يحتاج منها لطلاء بماء الزجاج كالطناجر، والمقالي التي تستخدم للطبخ والقلي على النار.
عود على بدء
بين تحضير العجينة، وطبخ القطع مشقّة لم يعد عريرو قادراً على تحمّلها، وقد تركت آثاراً مؤلمة على ركبتيه، فتوقف عن العمل. لكن عودة الاهتمام بالفخار من قبل بعض المهتمين، أيقظ فيه روح الحب للحرفة التي قضى حياته فيها، ويشكل موسوعة صناعتها، وعاد يستقدم التراب بكميات أقل من السابق، ويمارس سعادته بمعالجته، وتحويله عجينة، قبل أن يعاود لبس مريوله، والقعود على الطاولة، وتحويل العجينة إلى قطع جديدة.