"تحويشة العمر"في عوامات القاهرة الشهيرة تواجه خطر الزوال
30 عوامة على النيل في القاهرة تواجه خطر الزوال، بسبب مشروع أعدّه الجيش المصري لجني أرباح.
وضع بعضهم "تحويشة العمر" فيها، فيما جعل منها آخرون منزلاً صيفياً مريحاً. تواجه قرابة 30 عوامة على النيل في القاهرة، خطر الزوال بسبب مشروع أعدّه الجيش يضحي وفق السكان، بتلك البيوت التراثية العائمة من أجل جني أرباح.
وتقول الكاتبة أهداف سويف "عندما اشتريت هذه العوامة قبل عشر سنوات، حققتُ حلماً كان يراودني على الدوام وأعددتها لاستقبال أحفادي وتمضية آخر أيامي فيها".
غير أنّ مياه النيل قد تتوقف عن التلاطم مع هذه المنازل العائمة المرتكزة على صناديق كبيرة من المعدن على طول كورنيش النيل، في منطقتي الكيت كات وامبامبة قبالة حي الزمالك الراقي الواقع على الضفة الأخرى للنهر.
ففي 20 حزيران/يونيو، تلقّى سكان العوامات أمراً اطّلعت عليه وكالة "فرانس برس" ينص على إخلاء الموقع خلال أسبوعين، وبالفعل يتم اخلاء بعض المنازل العائمة من دون أي طرح بالتعويض أو تقديم سكن بديل للأشخاص المعنيين.
منار مهندسة في 35 من عمرها، تعيش مع أسرتها في واحدة من هذه العوامات،تقول لوكالة "فرانس برس" إنّهم "يريدون منازلنا ليقيموا مكانها مقاهي ومطاعم".
وأثار مصير منال وجيرانها تعاطفاً كبيراً على شبكات التواصل الاجتماعي، التي انتشرت عليها دعوات للحفاظ على العوامات، التي يبلغ عمر بعضها 100 عام.
حتى أنّ البرامج الحوارية المسائية الشهيرة على محطات التلفزيون المحلية، التي تدعم بقوة نظام الرئيس عبد الفتاح السيسي، بدت وكأنّها تؤيد سكان العوامات الذين حلّوا ضيوفاً على مقدمي هذه البرامج.
وترتبط هذه العوامات في أذهان ووجدان الجمهور العربي كله، وليس المصري فقط، بأفلام سينمائية شهيرة. فهذه المنازل العائمة كانت خلفية للعديد من الأفلام منذ الخمسينيات، مثل فيلم عبد الحليم حافظ "أيام وليالي".
وشكّلت إحدى العوّامات كذلك ملتقى لشخصيات درامية متنوعة في فيلم "ثرثرة فوق النيل"، المأخوذ عن رواية بالإسم نفسه للروائي المصري نجيب محفوظ الحائز على جائزة "نوبل".
ولكن بصرف النظر عن علاقة هذه العوّامات بالسينما المصرية، فإنّ كارثة مالية تنتظر أصحاب هذه المنازل العائمة. وتشرح منار قائلة "لقد اشتريت هذه العوامة مع أسرتي قبل 4 سنوات. بعت شقتي ووالدي باع سيارته واستخدمنا مكافأة نهاية لخدمة لوالدي ووالدتي المتقاعدين لنتمكن من تدبير ثمنها".
قرار الطرد المقنّع
أعطي الإنذار الأول عام 2020، حين أعلن محافظ القاهرة "تعليق تصاريح رسوم العوامات بشكل مؤقت".
ولكن منذ ذلك الحين، لم يحصل أي شيء إلى أن جاء أمر الإخلاء. ورغم أنّه تم تأجيل المهلة لمدّة أسبوع، إلّا أنّ ذلك لم يترك للسكان "الوقت اللّازم للتقدم بطعن أمام القضاء"، وفق أحد القاطنين.
وفوق ذلك، فإنّ الدولة تطالبهم بمبالغ طائلة عن متأخرات حق الانتفاع بشاطئ النيل، وقيمة تسجيل العوامة التي تصل مع إيجار المرسى إلى ما يراوح بين 40 ألف و50 ألف دولار، أي 20 ضعف ما كانوا يدفعونه من قبل.
غير أنّ رئيس الإدارة المركزية لحماية النيل بالقاهرة، أيمن أنور، أكّد في أحد البرامج التلفزيونية أنّ "القرار ليس مفاجئاً، ففي العام 2020، منعت الدولة استخدام العوامات كمنازل فهي لا تعطي صورة حضارية وتلوث النيل".
والحل الوحيد للسكان من أجل الاحتفاظ بمنازلهم هو تسجيلها كمنشأة سياحية أو تجارية.
وتقول الكاتبة السبعينية سويف "مطلوب مني وأنا في سني هذه أن أدفع كل هذه الأموال وأن أتحول الى صاحبة مقهى، هذا قرار طرد مقنّع".
ويندد الناشطون باستمرار، بعدم إطلاع السلطات للسكان بشكل كاف على خططها. وازالة هذه العوامات، التي تذكر بإزالة حي "بولاق أبو العلا" ومنطقة "ماسبيرو" الملاصقة له في قلب القاهرة، تعكس رغبة الدولة في التطوير العقاري في جميع أنحاء العاصمة التي تنمو سكانياً بشكل مطّرد.
وإذا كانت الأحياء الفقيرة العشوائية أزيلت في البداية باتباع سياسة "البلدوزر"، فإنّ قرار إزالة العوامات يمسُّ هذه المرة أسراً ميسورة نسبياً.
"القرار جاء من فوق"
قبالة العوامات على الضفة الأخرى، يُعتبر "ممشى أهل مصر" أحد المشاريع الكبرى التي يتبناها الرئيس عبد الفتاح السياسي، شأنه في ذلك شأن العاصمة الإدارية الجديدة التي تنمو وسط الصحراء على بعد 50 كيلومترا شرق القاهرة.
وترى سويف أنّ "ما يحدث كارثة، فكلّ سنتيمتر يجب أن يكون مربحاً، لم يعد هناك أماكن عامة، لم يعد الناس يستطيعون الخروج من دون أن يدفعوا".
وتقول الحكومة في المقابل إنّ "هذا الممشى الذي يضم مرسى بحرياً ومسرحاً مفتوحاً ومقاهي ومطاعم، سيضمن للجمهور الوصول إلى النيل الذي لم يكن متاحاً بسبب المطاعم والمقاهي الخاصة على الكورنيش".
ويقول عوض وهو جالس داخل عوامته التي يقيم فيها مع زوجته وأولاده منذ 25 عاماً "المتر المربع يتمّ تأجيره للأغراض التجارية مقابل1000 جنيه، وبالتالي فهم يفضلون الإيجار للمقاهي لتحقيق مكسب".
ويضيف هذا الرجل الستيني "إنّه أمر مأساوي لأنّ هذه قطعة من التراث مرّ عليها الملك فاروق وأم كلثوم ومنيرة المهدية"، أكبر مطربة مصرية في الفترة ما بين الحربين العالميتين الأولى والثانية.
ويردف: "إنّها قضية خاسرة سلفاً. وحتى أمام مجلس الدولة سنكون في مواجهة الدولة، وبالتالي لن نستطيع أن نفعل أي شيء، ويقال لنا إنّ القرار جاء من فوق"، مشيراً بيده إلى السماء مستسلماً.