خاص الميادين نت: لبناني ينتقم من الحرب على طريقته (فيديو)
جولتنا في حديقة وكهف ومتحف "شظايا" نقلت مشاهد انسيابية رائعة، جمع شارل نصّار شظايا قذائف من مخلّفات المعارك، لتغدو بين يديه تماثيل يحاول من خلالها استعادة طفولته الممزّقة في بلدة شهدت أهوال الحرب.
وقّدت فيه الحرب اللبنانية بكل مراحلها شعوراً مخيفاً مقيتاً، فانقادت مخيلته منذ نعومة أظفاره إلى مشاهد دمار القذائف والصواريخ والعبوات، لكن شارل نصّار أصرّ على "الانتقام" من نير العنف عبر الفن والجمال، وها هي مخيلته تتوقد بانسيابية لا تعرف حدوداً للابتكار.
الطفل داخل نصار يدغدغ هيولى صوره الأولى! الوالد (الحداد) في ورشته المتواضعة. الجدة تخبز على "الصاج". قريته رمحالا الوادعة في جبل لبنان. مشاهد "الضيعة" ورائحة الموقد. اللعب في "قادوميات" الوهاد والتلال. سكّة الدواب وحراثة الأرض. بقرة العائلة الحلوب. كلب الحراسة... وأخيراً مشاهد العدوان الإسرائيلي على لبنان عام 1982 و"حرب الجبل"، فالتهجير وترك البلدة….
تحويل الأسود إلى أبيض عبر "شظايا"
كل هذا ترسّخ في ذاكرة نصار فأمسى "فناناً"! وهو الذي لم يسلم من مخلّفات قذائف الحرب، بل أحال الأسود إلى أبيض، فأطلق على مشروعه الفني اسم "شظايا".
جولتنا في حديقة وكهف متحفه "شظايا" نقلت مشاهد انسيابية رائعة، فقد جمع شظايا قذائف من مخلّفات المعارك، لتغدو بين يديه تماثيل يحاول من خلالها استعادة طفولته الممزّقة في منطقة شهدت أهوال الحرب.
"تؤرخ" هذه الشظايا لمحطّات من الحرب اللبنانية (1975-1990)، والعدوان الإسرائيلي على لبنان صيف 2006، ومعارك مخيّم نهر البارد للاجئين الفلسطينيين شمال لبنان بين الجيش اللبناني وتنظيم "فتح الإسلام" الإرهابي.
تماثيل تجسّد الواقع
الرجل لم يسلم من نيران النزاع في لبنان، فاضطر إلى هجر بلدته في مرحلة من مراحل الحرب الأهلية، لكن المشاهد لم تغادره. جدّته حاضرة في أعماله. في إحدى زوايا الحديقة، تنكب على جمع "البزاق" او خَبر "الصاج"، فيما والده يحلب البقرة على مسافة قريبة. تماثيله تعكس بساطة حياة القرية وذكريات ما قبل الحرب والتراث اللبناني، من رقص الدبكة وغيره.
من بعيد، نرى فلاحاً يعمل في أرضه أو عائداً من الحقل بعد يوم عملٍ شاق، وآخر يحصد القمح. ويظهر عملٌ آخر امرأة تعد خبز الصاج اللبناني التقليدي.
وهناك موسيقي يعزف على كمان مصنوع من قذيفة هاون، وآخر يدق على طبلة مأخوذة من قذيقة "إينيرغا" !
الشظية تدلني وأنا أعلّم عدوي!
بدخولنا إلى الكهف الذي يضع فيه نصّار مجموعة جميلة من "تحفه" بطريقة أخّاذة، نسمع أصوات رشح المياه من الصخور. وهنا، نجلس في زاوية خصصها الفنان المتقد للراحة داخل الصخور، وهي تتميز بتماثيل حديدية منمنمة أدخل فيها عنصر الضوء، فغدت في غاية الأناقة.
يشرح نصّار قائلاً: "الشظايا تتحول أشكالاً في دماغي.. والشظية تدلني على ما ينبغي لي أن أفعل بها. عندما تكون بين يديّ، أنسى أنها نتاج الحرب والدمار. أقوم بتحويل طبيعتها القاتلة إلى حياة. بهذه الطريقة، أضع عدوي في منزلي، وأعلّمه معنى السلام والمحبة".
كيمياء جميلة تجمع شارل بقطع الحديد، فهو لا يكتفي باستعمالها في نطاق عمله فحسب، بل يحوّلها إلى تحف موسيقية، مثل الكمنجة التي يعرضها، والتي نظنها حقيقية للوهلة الأولى، كأنك على موعدٍ مع صوت النغمات! كذلك بعض اللوحات التي رسمها مستعملاً الحديد عوضاً عن الأقلام والألوان.
يستوقفنا، مثلاً، تمثال "المنتظر اللبناني" الجالس على مقعد حديدي مجسّداً حالات الانتظار التي يعيشها اللبناني أمام محطات الوقود والأفران وغيرها.
أمّا تمثال "الغلّبة لمن؟"، فهو عبارة عن شخصين "يتكابشان". جاءت الفكرة انطلاقاً من الواقع. وقد أهدى هذا التمثال إلى لجنة "يوم السلام العالمي" التي منحته درعاً العام 2006 – 2007 بمناسبة "يوم السلام العالمي" الذي تحتفل به في 20 أيلول/ سبتمبر من كل عام.
ولم ينسَ المبدع اللبناني إفراد حيّز للحيوانات على أشكالها، من طيور وسلاحف وأحصنة، كما يستمتع الزائر بركوب سيارات حديدية قديمة أنيقة صنعها بأنامله، فضلاً عن إبداع جديد يتجلى بالمجسمات المتحركة التي باشر بها منذ فترة ولاقت رواجاً.
زائر "شظايا" يستمتع بمشهديات جمالية؛ فعلى مطل الوادي الشوفي الجميل عنّ على بال نصّار تشييد جسرٍ عالٍ بين نخلتين باسقتين، بحيث يتمكن الجميع من تسلّق السلم اللولبي إليه، ويسعدون برؤية النحلات وقفيرها، وأشكالٍ من الحشرات والطيور، أهمها نقّار الخشب.
في البداية، كان نصّار ينفّذ التماثيل في بيروت ويتركها جانباً، لكنه عندما تمكّن من العودة إلى بلدته مع انتهاء الحرب، قرر وضعها في أرض مسيّجة يملكها. وقد أنجز عشرات القطع الكبيرة والصغيرة والمنمنمة، بحيث يصعب على المرء ملاحظتها جميعها في جولة واحدة، فالمميز في الحديقة أن الزائر يقع على تفاصيل جديدة وجميلة ولافتة كلما جال فيها، فهلموا بنا جميعاً إلى حديقة "الشظايا".