بالبيانات.. تعرّف على واقع التّعليم المنزلي في العالم العربي
لا يوجد أي وثائق رسميّة حول المتعلمين منزلياً في العالم العربي ولا أي إحصاء، لذلك تم العمل على إنشاء استبيان أولي لمعرفة واقع التّعليم المنزلي في العالم العربي، فإلى ماذا خلص الاستبيان؟
رغم كل ما يمكن أن تؤمّنه المدرسة من بيئة مساعدة في التّعليم، إلا أن العالم يشهد توجّهاً متزايداً نحو التعليم المنزلي حتى منذ ما قبل جائحة كورونا. ويقدّر عدد الطّلاب الذين تلقوا تعليماً منزلياً خلال العقدين الأخيرين بين 1.7 مليون و2.3 مليون في الولايات المتحدة فقط، ويُقدّر النمو السنوي لطلاب التعليم المنزلي بين 7% و15%.
وقد عكس هذا القبول لفكرة التعليم المنزلي استطلاع أجرته مؤسسة غالوب الإحصائية رداً على سؤال: «هل ينبغي أن يمتلك الآباء الحق القانوني في تعليم أبنائهم في المنزل؟»، إذ أجاب أكثر من نصف المشاركين 53% بـ «نعم» في مقابل 39% قالوا «لا».
هذه التّجربة لم تبق محصورة ببعض البلدان، بل انتشرت في العالم بفعل نجاحها منذ عام 1999 في دول عدة مثل النمسا وفنلندا وجورجيا ولاية أوكلاهوما وإيرلندا وإيطاليا وبيرو والفلبين وبولندا والبرتغال وإسبانيا وغيرها من الدول التي باتت تعترف دستورياً بحق الأسرة في التعليم المنزلي وتسمح به، سواء بشكل صريح أم ضمني، وذلك باعتباره حقاً للأسرة في تحديد كيفية تعليم أطفالها.
ورغم أنه جرى الحديث عن ازدياد ممارسة هذا النمط من التعليم، في الآونة الأخيرة، في العالم العربي، إلا أنه لا توجد أي دراسات رسميّة تتناول واقع التّعليم المنزلي وكيف يمكن الاستفادة منه، حيث إن غالبية البلدان العربيّة إن لم نقل كلها لم تشرّع التّعليم المنزلي بعد، بل لا تزال تتجاهله، ومن يمارسه لا يمكنه أن يحصل على شهادة رسميّة معترف بها، حتى أنه لا استثناءات مقوننة في ذلك لذوي الاحتياجات الخاصة وغيرهم.
ولأنه لا يوجد أي وثائق رسميّة حول المتعلمين منزلياً في العالم العربي ولا أي إحصاء، تم العمل على إنشاء استبيان أولي لمعرفة واقع التّعليم المنزلي في العالم العربي حيث جرى تشكيل أسئلته والخيارات المتاحة في كل سؤال وفقاً لدراساتٍ سابقةٍ جرت في بلدان مختلفة، ومنها جرى تسليط الضّوء على أبرز العناوين التّي يمكن أن تمس واقع التّعليم المنزلي (الواقع الديمغرافي - كيفيّة إجراء التّعليم المنزلي - تقييم التّعليم المنزلي وغير ذلك...) كما سيظهر في المستندات.
أما في ما يرتبط بالمشاركين فقد تم استخدام تقنية كرة الثلج، والتّي يبدأ فيها الباحث بمجموعة صغيرة من المشاركين المعروفين ويوّسع العينيّة عن طريق سؤال المشاركين الأوليين لتحديد الآخرين الذّين يجب أن يشاركوا في الدراسة، ووفق ذلك تم الوصول إلى 144 مشاركاً مِن مَن قبلوا أن يشاركوا في دراسة ترتبط بالتّعليم المنزلي -حيث إن المشاركة في مثل ذلك يُشكل خطراً على مستقبل أولادهم- وقد توزع المشاركون - المتعلمين منزلياً- على بلدان مختلفة من العالم العربي كما يظهر في الرسم البياني -مستند رقم 1-، إلا أن أعلى نسبة تم تسجيلها للمشاركين في التّعليم المنزلي هي في شمال أفريقيا (37.5%) يليها شبه الجزيرة العربيّة (36.8%). وحيث إن معظمهم يقطنون في العالم العربي (91%) فهذا يعني أنهم يمارسون التّعليم المنزلي بطرق غير قانونيّة، خاصة وأن معظمهم لا يمتلك جنسيّة أخرى – نسبة الذي يمتلكون جنسيّة أخرى هي (5.6%) - كما يظهر من المستند رقم 2.
الديمغرافيا والأسباب
في الشّق الديمغرافي، يتميّز معظم الأهالي -أي نسبة 89%- من الذّين يشاركون بالتّعليم المنزلي باستقرار زواجهم -مستند رقم 3-، فهو يرتكز على الأهل وبالأخص الأم كما يظهر في المستند رقم 8، كما لا يخفى أن لعدد الأطفال المتعلمين منزلياً في البيت الواحد أثرٌ كبيرٌ في تعقيد أو تسهيل عملية ممارسة التّعليم المنزلي، وهذا ما يمكن أن يفسّر كون معظم العائلات التّي تمارس تعليماً منزلياً لديها ولد أو ولدين (82%) - مستند رقم 4-.
أما بالنّسبة إلى السبب الأولي لاختيار الأهل التّعليم المنزلي، فيتبيّن بحسب الرسم البياني مستند رقم 5 أن السّبب الأساسي (75%) هو من أجل "تقديم تعليم أفضل"، ثم من بعده "التّعاليم الدينيّة" (45%)، وقد نالت الأسباب الأخرى نسب أدنى متفاوته.
وفي معرض السّؤال عن إذا ما تغيّرت أسباب اختيار المشاركين للتعليم المنزلي -لسببٍ أو لآخر- بعد ممارسته ، فقد أجاب معظمهم (72%) ب "كلا" بينما نسبة 28% من المشاركين أجابوا "نعم" - مستند رقم 6- حيث إن بعض المتعلمين منزلياً قد يضطرون إليه لسبب معين (سبب صحي أو السّفر...) لكنهم يكملون به -كنمط تعليمي- لسببٍ أخر، و قد أشار المشاركون الذين أجابوا ب "نعم" إلى الأسباب التي دعتهم إلى الإكمال -المستند رقم 7-، من أبرز الأسباب الحصول على تعليم أفضل (56%) وتلقي التّعاليم الدينيّة (42%).
والملفت أن هذه النّتائج أتت متقاربة لدراسات أسباب التّعليم المنزلي في أميركا والتّي اختصرت الأسباب العامة للتوجه نحو التّعليم المنزلي في الولايات المتحدة الأمريكيّة بثلاث أسباب عريضة: الأولى "عدم الرضا عن المدارس العامة" بسبب سياساتها التّعليميّة ومناهجها المتّبعة، الثاني "الشّواغل الأكاديميّة والتّربوية" أيّ وجود بعض الأمور التي تشغل اهتمامات الطّلاب ويتنافسون عليها في المدرسة (كالماركات العالمية..)، وأخيرًا "القيم الدينيّة أو الأخلاقيّة" أيّ وجود توجه عام في المدارس نحو العلمانيّة ممّا يؤدي إلى ضعف القيم الدينيّة والأخلاقيّة لدى الأطفال. وأيضاً في بريطانيا إذ تشير الدراسات إلى أنّ التّوجه نحو التّربيّة المنزليّة يعود لسببين: الأوّل: ديني وهو وجود بعض المسيحيّين الإنجيليين الذّين يعارضون التّعليم العام لأسباب منها كون المنهج يشمل تدريس نظرية داروين للتطور، الثاني: تخوّف عدد من علماء الاجتماع وعلماء النفس والمؤسسات التعليمية مثل إيفان إيليتش، جون هولت وريموند... من الآثار والتّبعات السّلبيّة للدراسة المدرسية على نمو الطّفل الذهني والعاطفي.
كيفية إجراء التعليم المنزلي والتّقييم
علماً أنه لا يوجد أي مناهج رسميّة تناسب المتعلمين منزلياً في العالم العربي، إلا أنه قد أشار الأهل إلى عدد من المناهج والأساليب المعتمدة التي تقوم على الانتقائيّة إن كان بالمناهج أو بأدوات المناهج -مستند رقم 9-، ولكن يبقى المنهج الأكثر اتباعاً (49.3%) هو المنهج الحكومي المقرر في البلاد، حيث أن من يمارس التّعليم المنزلي يتحتم عليه في مراحل لاحقة إجراء الامتحانات الرسميّة المعتمدة لاستكمال دراسته الجامعيّة. فيما يُسجل اعتماد نسبة قليلة من المشاركين على المناهج الأجنبيّة، والملفت حقيقةً هو وجود نسبة لا بأس بها (19.4%) لا تستخدم أي منهج في التّعليم، فهذا حتى بالدول التّي تسمح بالتّعليم المنزلي نسبته ضئيلة جداً.
وفق هذا النمط التّعليمي، حاز معظم المتعلمين (44%)على نتائج عالية بحسب الأهل – مستند رقم 11- وهذا ينسجم مع معظم الدراسات السابقة الجارية خارج الوطن العربي، ومن الجدير ذكره أنه لم يحصل أي من الأولاد على نتائج غير عالية، علماً أن حوالي 29% من المشاركين يمتحنون أولادهم من خلال الإمتحانات والعلامات - مستند رقم 10-، في حين ذهب معظمهم (37.5 %) إلى تقويم أبنائهم من خلال المشاريع و النقاشات، والملفت أن آخرين (27.3 %) اختاروا عدم تقويم أبنائهم في المرحلة التّمهيديّة والابتدائيّة أبداً، وذلك لوجود ملاحظات على أهميّة وجدوى التّقييم في المراحل الأولى العمرية.
في ما يخص التّقييم الإجتماعي -الموضوع الأكثر حساسيّة وتساؤلاً عند المهتمين- فقد اعتبر معظم الأهالي المشاركين (60%) أنه لا يوجد مخاوف زائده اتجاه أولادهم في التّعليم المنزلي - مستند رقم 12- وعن سؤالهم إذا ما كان أطفالهم يشاركون في الأنشطة الاجتماعيّة فقد أكد معظم المشاركين (36%) - مستند رقم 13- أن أولادهم كثيراً ما يشاركون في أنشطة اجتماعيّة من قبيل (نزهات مع الأصدقاء، تجمعات عائليّة، نشاطات مجموعات التّعليم المنزلي وغيرها)، وأن نسبة 13% فقط من المشاركين يشاركون بشكلٍ نادرٍ في أنشطة اجتماعيّة، وهذا قد يعد مماثلاً لنسب مشاركات طلاب المدرسة في الأنشطة.
وصف التّجربة
تنوعت آراء المشاركين حول وصف تجربة التّعليم المنزلي -مستند رقم 14-، إلا أن معظم المشاركين (60%) اعتبروا أن هذه التّجربة متعبة وشاقة ولكن تستحق العناء، وفقط حوالي 6% من المشاركين اعتبروا أن هذه التّجربة لا تستحق العناء أو مملة، وفي سؤال المشاركين حول تفاعل أطفالهم مع تجربة التّعليم المنزلي -مستند رقم 15- فقد أكد معظمهم (48%) أن أطفالهم أحبوا تجربة التّعليم المنزلي، في المقابل أكد 36% أن ابنهم صغير في السّن ولا يستطيع أن يقرر.
يوجد المزيد من المعلومات التّفصيليّة حول آراء وتجارب المتعلمين منزلياً، ولكن من الجدير ذكره أن عدد المتعلمين منزلياً أكثر بكثير - فضلاً عن من لديه نية للإجراء-، إلا أنهم لا يستطيعون التّعاون بشكل فعالٍ بسبب العواقب التي يمكن أن تنشأ من مخالفة القوانين التّعليميّة، إضافةً إلى أنه لا يوجد مسح حقيقي يشملهم، هذا الواقع يدعو إلى تنظيم مثل هذه الأنماط التّعليميّة المستجدّة عالمياً، والتّي يمكن أن تكون حلاً في تعليم يتناسب مع الظّروف الراهنة، خاصة، وأن حرية اختيار الأهل لطريقة تعليم أطفالهم هو حق كفلته القوانين الدوليّة[2]، ووفق ذلك أصلاً، خاض عدد من الشّعوب أو الجماعات مواجهات قضائيّة مع حكوماتهم ودولهم مثل أميركا وبريطانيا سابقًا وألمانيا حالياً.
في الختام، وكتوصيات عامة، يمكن ذكر عدد من الإجراءات العمليّة والأكاديميّة والتي يمكن أن تكون مساعدة في إطار تحريك عجلة تشريع التّعليم المنزلي كنمط تعليمي في العالم العربي، ومن أبرزها:
- تسهيل عملية إجراء التّعليم المنزلي من خلال السّماح للمدارس بتبني المتعلمين منزليًا بتعرفة رسميّة وتقييم رسمي سنوي.
- العمل في الأثناء على تنظيم آليّات تشريعيّة ثابتة لتنظيم عملية التّعليم المنزلي، من أجل تشريعه.
- تشكيل مناهج ديناميكية تنسجم مع المتعلمين منزليًا.
- التّنسيق مع الجمعيات الخارجيّة المهتمة بالتّعليم المنزلي من أجل دعم الأهالي المشاركين في العالم العربي.
- تنظيم لقاءات وتجمعات دورية للمتعلمين منزليًا.
- العمل على زيادة الأماكن التّرفيهيه والتربويّة، حتى يستفيد منها المتعلمين منزليًا.
- تأسيس جمعيات أو حتى منظمات ربحيّة محلية من أجل إنشاء مراكز ومؤسسات لدعم المتعلمين منزليًا من جهة الأساتذة، المناهج أو المواد.
السّماح بتوسيع الدراسات في مجال التّعليم المنزلي وذلك من خلال:
- أن تتوسع الدراسة لتشمل تجارب المتعلمين منزليًا من مختلف النواحي في العالم العربي.
- أن تتعمق الدراسة في المناهج والبرامج المعتمدة من قبل الذّين يمارسون تعليمًا منزليًا، حيث يوجد تجارب غنيّة.
- أن تعمل الدراسة على تشكيل آلية أو نظام واضح للتعليم المنزلي يقارب آليات موجودة في الخارج.
- إجراء دراسة مسحية كمية للمتعلمين منزليًا في العالم العربي بعد أخذ ضمانات من الوزارات بعدم التّعرض لهم.
- إجراء دراسة كميّة لمعرفة تأثير التّعليم المنزلي على دافعيّة الطّلاب بالتعلم.
تنص المادة 26، الجزء 3، من الإعلان العالمي لحقوق الإنسان لعام 1948 على أنّ "للآباء الحق الأول في اختيار نوع التّعليم الذي يجب أن يحصلوا عليه لأطفالهم". وتنص المادة 2 من الاتفاقيّة الأوروبية لحماية حقوق الإنسان والحريات الأساسيّة لعام 1950 على أنّه "في ممارسة أي وظائف تؤديها فيما يتعلق بالتعليم والتدريس، تحترم الدولة حق الوالدين في ضمان هذا التعليم والتدريس بما يتفق مع معتقداتهم الدينيّة والفلسفيّة".
كما وينصّ الاتفاق الدّولي الخاص بالحقوق الاقتصادية والاجتماعيّة والثقافيّة في المادة 13 على أنّ "الدول الأطراف في هذا العهد تتعهد باحترام حرية الوالدين... اختيار مدارس أبنائهم، بخلاف تلك التي أنشأتها السلطات العامة"، ولكن بشكلٍ "يتوافق مع الحد الأدنى من المعايير التعليمية التي قد تضعها أو توافق عليها الدولة" (الأمم المتحدة حقوق الإنسان مكتب المفوض السامي، 1966).
* للحصول على المزيد يمكن التواصل مع الكاتب ([email protected])