التاريخ يميّز قلعة عنجر اللبنانية... بماذا؟
عروسان يرفلان بأبهى حلّة، يزيّنان مدخل قلعة عنجر اللبنانية مع الأهل والأصدقاء!... فالشابان اليافعان قررا على ما يبدو التقاط أولى صور "حياتهما الجديدة" من عبق ألق الزمان ، ربما ليدخلا التاريخ من أبوابه الواسعة!
إذا عنّ على بالك زيارة واحدة من معالم لبنان التاريخية السياحية الأثرية، فما عليك سوى أن تيممّ صوب مدينة عنجر في في محافظة البقاع شرقي لبنان ... هنا تأسرك المدينة السياحية بامتياز، وتشعر أنك في حقبة تاريخية هامة.
بالقرب من الحدود السورية، وعلى سفح جبل جردي، تضج عنجر بالزوّار من كافة مناطق لبنان، وبمجرد أن تدخل إليها و تتجوّل في أزقتها وساحاتها تشتم رائحة عطرة نابعة من عبق التاريخ و ترى في جدرانها روائع الفن المعماري القديم الأمر الذي جعلها محطة أنظار السياح خاصة بعدما صنّفتها منظمة اليونسكو كموقع أثري و ذلك سنة 1984، لتصبح بذلك مقصداً سياحياً هاماً ومحطّ أنظار محبي اكتشاف الحضارات القديمة التي مرّ بها لبنان.
الميادين نت رصد إطلالة قشيبة تستقبل بها المدينة زائريها، بمطاعمها وساحاتها المزدانة بالورود والأشجار الباسقة والمياه المتدفقة، وقبل كل ذلك حسن استقبال أهلها وحنكتهم وحرفيتهم الحاذقة التي جعلت تلك المدينة البقاعية الهادئة مقصداً للزائرين والسياح العرب والأجانب، زدّ على ذلك أن بلديتها ومجالسها المتعاقبة وجمعياتها ونواديها تسهر بشكلٍ دؤوب للحفاظ على مقوّمات البلدة السياحية المميزة.
وتشدّك فكرة تربية أسماك "الترويت" النهرية في البرك حيث تنتقي سمكتك بنفسك من الماء، ولك أن تصطادها لتتناولها مشوية أو مقلية أو "صيادية"، هذا فضلاً عن أشهى المأكولات اللبنانية والأرمنية التقليدية المميزة في طريقة تقديمها وطعمتها، ولعل مطعم "الشمس" الشهير ينهض شاهداً على كل ذلك.
التاريخ من أبوابه الواسعة!
تطأ قدماك مدخل القلعة الواسع، لافتة حديثة تشير إلى إيلاء وزير الثقافة اللباني محمد مرتضى الحثيث للمعالم التاريخية، ولعل ذلك بسبب جهد الوزارة في ترميم وإصلاح ما أمعنه البعض في تهشيم وبالتالي تهميش معالمها بقصدٍ أو بغير قصد!
فساحة القلعة التي كانت مكاناً للمهرجانات والحفلات، افتقدت هذا الصخب بسبب الأوضاع الاقتصادية وفيروس "كورونا"، ما جعلنا نلحظ كيف عاثت يد الإنسان تكسيراً وتشويهاً للأعمدة والجدران واللوحات ووسائل الإضاءة الأرضية وغيرها.
عروسان يرفلان بأبهى حلّة، هما يزينان مدخل القلعة مع الأهل والأصدقاء!... فالشابان اليافعان قررا على ما يبدو التقاط أولى صور "حياتهما الجديدة" من ألق الزمن ، ربما ليدخلا التاريخ من أبوابه الواسعة!
وبدأت رحلتنا مع مجموعة حريصة على التراث الوطني والعالمي، داخل القلعة بساحاتها الواسعة المعبدة وقناطرها المميزة وأعمدتها المزخرفة.
"عين جرّا" هو اسم مركب لعين من عيون الماء التي كانت تتفجر عند سفوح سلسلة جبال لبنان الشرقية تزاوج مع اسم حصن قديم اسمه "جرّا" ورد ذكره إبّان حقبة الإسكندر المقدوني، ومنه اشتّق اسم مدينة "عنجر" اللبنانية الواقعة على بعد 60 كلم إلى الشرق من بيروت.
تحمل عنجر في طيّات تاريخها فرادة تميّزها عن المدن اللبنانية الأثرية مثل بعلبك وصيدا وصور وجبيل كونها مدينة لم تختبر تعاقب وتواتر الحقب والثقافات والشعوب على مدى العصور. وهي تشكّل بحقّ أطلال الحقبة الأموية في تاريخ الحضارة العربية في عّز تألقها.
وقد كانت نموذجاً للخلافة الأموية التي امتدت حدودها من شمال فرنسا حتى أسوار الصين واستمرت 100 عام بين 660 و750م، وباستثناء مسجد بعلبك الأثري تشكّل عنجر الموقع اللبناني الوحيد الذي يعود تاريخ إنشائه إلى العصر الأموي.
ويقول الدكتور حسان سلامة سركيس ضمن الدراسات الرسمية التي أعدّتها وزارة السياحة اللبنانية إن الخلفاء الأمويين أبقوا على الأواصر التي كانت تربطهم بالقبائل البدوية، فأقاموا مضارب صيد واستجمام ما لبثت أن تحّولت الى مستقرات مشيدة بالحجر، منها قصور وقلاع ومراكز إنتاج زراعي وتجارة.
وصولاً الى إصدار الخليفة الوليد بن عبد الملك (705-715م) أمراً بإنشاء مدينة عنجر المحصنة مستعيناً بمهندسين وحرفيين بيزنطيين وسوريين عارفين بتقاليد العمارة والزخارف القديمة من أيام الرومان والإغريق، فاستقدموا الحجارة من مقالع بلدة كامد اللوز المجاورة وبعض الأعمدة والقواعد والتيجان من حصن "جرّا" المجاور.
لكن المدينة راحت تتداعى بعد وفاة مؤسسها، فقد دمرها الخليفة مروان الثاني عام 744م، وتحولت الى أطلال وسط مساحات من المستنقعات... الى أن بدأت عمليات التنقيب عن آثارها عام 1943 من قبل المديرية العامة للآثار اللبنانية.
اكتشافات وشوارع معبّدة بالحجارة
سور مربع تحميه أبراج دائرية ومرائب كانت الحمم تُقذف منها على المتمردين والغزاة. ووسط الجدران بوابات أثرية كبيرة تشهد على حقبة الحرب التي تميّز بها العصر الروماني المضطرب، وشارعان رئيسيان يلتقيان فترتفع بوابة رباعية الفتحات تفضي الى جميع البوابات الأخرى، وقناة مياه تخترق كل شارع وتمتد لتصب في بركة خارج السور، وهذان الشارعان يحددان 4 تجمعات حيث توجد مساجد وحمامات ومخازن وقصران وعدد من المساكن.
الاكتشاف الأول كان قصراً يحيط بفسحة مربعة طولها 40 متراً تحف بها القناطر شاطرة القصر الى قسمين متماثلين. وقد اكتشف في الشارع نفسه لاحقاً قصر يشبه الأول، لكن زخارفه أنعم وهي متأثرة بإيحاءات يونانية رومانية، ثم بقايا مسجد أثري تقوم على أنقاض مسجد أكبر منه، فضلاً عن بقايا فسيفساء وجهاز تدفئة مركزي من الآجر والطين.
وتوزعت مساكن الحي الجنوبي بين عدد من الحارات التي تفصل بينها أزقة متوازية وتعتمد التصميم نفسه من صحن غير مسقوف، وعلى مقربة من بوابة المدينة الشمالية حمام عربي تركي مستوحى من التقاليد الرومانية والبيزنطية.
واللافت في عنجر، كما يقول الدكتور سركيس، أنها بنيت على مخطط مستطيل الشكل وأقيم حولها سور طوله 370 متراً وعرضه 310 أمتار. ودعمت الأسوار الخارجية بـ 36 برجاً نصف دائري، كما دعمت زواياها بـ 4 أبراج دائرية تبلغ سماكة جدرانها نحو المترين. وهي مشادة بالحجر الكلسي بشكلٍ جعل واجهات البناء الخارجية مطلة على السهل والداخلية مطلة على المدينة.
وتنتشر على واجهة السور الخارجية "خربشات" يصل عددها الى 60 نقشها زائرو وسكان المدينة الأموية، بينها واحدة تعود الى عام 123 للهجرة.