كارل بوبر.. آخر التنويريين؟
انتقد النظرية الماركسية بقسوة، وصنفها ضمن العلم الزائف.. في هذا التحقيق، إضاءة على حياة كارل بوبر ونظريته "القابلية للتفنيد في المنهج العلمي".
يعتبر كارل بوبر من رواد فلاسفة العلم في القرن العشرين، بل وأهمهم على الإطلاق. تميَّز بأطروحاته الفلسفية في النقد الإبستيمولوجي ونظرية "القابلية للتفنيد في المنهج العلمي"، وبآرائه في علم التاريخ والمنهج التاريخي، وبتنظيره للديمقراطية الليبرالية. في هذا المقال، نحاول الإضاءة قدر المستطاع على حياة هذا الفيلسوف ومساره الفكري وأهم ما ميَّز فلسفته.
من الماركسية إلى الإبستيمولوجيا
ولد كارل ريموند بوبر في العام 1902 في العاصمة النمساوية فيينا، لعائلة من أصلٍ يهودي. غادر بلاده في ثلاثينيات القرن العشرين، في ذروة الصعود النازي، مُتوجِّهاً إلى بريطانيا التي منحته جنسيتها وباشر فيها مساراً أكاديمياً ثرياً في جامعة لندن. توفي في العام 1994 تاركاً العديد من المؤلفات، أهمها: "منطق الكشف العلمي"، و"المجتمع المفتوح وأعداؤه" الذي تضمَّن أسس فلسفته السياسية.
في العام 1919، اعتنق الماركسية باكراً، فمارس نشاطاً سياسياً وفكرياً، في ظل منظمةٍ طُلابيةٍ ماركسية، سرعان ما تحوَّل إلى مواجهاتٍ داميةٍ بين السلطات النمساوية والمتظاهرين الشيوعيين الذين كان من ضمنهم، لكن تلك التجربة القصيرة التي لم تتجاوز بضعة شهور، كانت كافية بالنسبة إليه، ليس للخروج من الماركسية فحسب، بل لتوجيه أقسى الانتقادات إليها، باعتبارها مدرسةً فكريةً دوغماتية تدَّعي احتكار المعرفة اليقينية، ولا مكان فيها للحس النقدي، فلم يتوانَ في تصنيفها ضمن العلم الزائف. من هنا، بدأ بوبر رحلته الفكرية التي باشرها بالتأسيس لفلسفته القائمة على المعرفة النسبية، وعلى النقد، وعلى نفي وجود معرفة يقينية.
تعزَّز هذا التوجُّه لدى بوبر، أولاً بنهاية النظرية القائلة إنَّ "الهندسة الإقليدية" هي من البديهيات غير القابلة للنقد أو التفنيد، بظهور هندسات تختلف عما جاء به إقليدس من "يقينيات" و"مُسَلَّمات"، لرياضيين كبار، منهم الألماني ريمان (1826-1866) (1)، وبالتالي خرج فعلياً البرهان الرياضي من حقل البديهية والمُسَلَّمَة إلى حقل الفرضية القابلة للنقد والتفنيد، وتعزَّز ثانياً بالنظرية النسبية لآنشتاين (2) التي مثَّلت أيضاً مُحفِّزاً لبوبر لصياغة نظريته في فلسفة العلم.
بوبر ونظرية التفنيد
وضع كارل بوبر معياراً للتمييز بين النظريات التجريبية وغير التجريبية، أطلق عليه اسم "القابلية للتفنيد"، واعتبره المعيار الأساس الذي يمكن من خلاله كشف صدق أو صحة أي نظرية علمية (3)، فالقابلية للتفنيد هي القابلية للاختبار التي يمكن من خلالها التعرف إلى مكامن الخطأ والعيوب في نظريةٍ ما، ذلك أن معيار الصحة العلمية لنظريةٍ معينة يكمن في إمكانية اختبارها وتفنيدها (4)، فتصبح بهذا كل نظرية لا تتضمَّن إمكانية تفنيدها نظرية غير علمية.
وتتلخّص نظريّة التفنيد في أن النظريات العلمية ليست إلا فرضيات، ما لم تخضع للتجربة من أجل تفنيدها بصفة جزئية أو كلية، علماً أن القابلية للتفنيد هي ما يُميِّز، في رأي بوبر، بين ما هو منهجي علمي وما هو ميتافيزيقي.
مع هذا، خالف بوبر المنهج التجريبي عندما اعتبر أن العلم يبدأ من النظريات والخرافات والأساطير لا من الملاحظة، فالمعرفة العلمية تبدأ على شكل فرضية، ثم تتطوَّر من خلال المناقشة النقدية التي تُمكِّنها من الاستفادة من الأخطاء، وهذه المناقشة تعتمد أساساً على التجربة والاختبار، فقابلية الاختبار هي قابليةٌ للتفنيد، وبالتالي هي المعيار الرئيس للحكم على علمية النظرية، والمناقشة النقدية هي مضمون "العقلانية التنويرية" عند بوبر، الذي رأى في نفسه آخر بقايا حركة التنوير، وهي تعني بالنسبة إليه الاقتناع بالقدرة على التعلُّم من الأخطاء من خلال النقد، سواء الجدل مع الآخرين أو من خلال النقد الذاتي، فالعقلاني الحق لا يؤمن بأن الحقيقة احتكار له أو لغيره، والجدل النقدي هو وحده الكفيل برؤية الفكرة من جوانبها المتعددة (5).
الجدل النقدي من الإبستيمولوجيا إلى السياسة
تجاوز بوبر بجدله النقدي حقل العلوم، لينتقل إلى حقل النظريات السياسية والاجتماعية، ووظَّف رؤيته وأدواته الإبستيمولوجية من أجل التأسيس لفلسفته السياسية من خلال كتابين هما "المجتمع المفتوح وأعداؤه" و"بؤس الأيديولوجيا" (6).
تركَّزت فلسفته السياسية حول مسألتين أساسيتين هما نقد التاريخانية وتنظيراته حول "المجتمع المفتوح" و"المجتمع المغلق".
شدَّد بوبر على خطورة التاريخانية، لأنها تقود إلى رؤى شمولية ومعاديةٍ للعلم (7)، منتقداً فلسفات القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين التي تدَّعي القدرة على التنبؤ بمسار تاريخ البشرية أو تفسر التطور التاريخي من خلال قوانين أو اتجاهات أو أنماط (8)، على غرار فلسفة فريديريش هيغل (1770-1831م)، وأوسفالد شبينغلر (1880-1936م)، وكارل ماركس (1818-1883م).
بالنسبة إلى بوبر، إن كل نظرية تُحيل إلى الحتمية التاريخية هي تجسيدٌ للشمولية من جهة، ومعاديةٌ للعلم من جهة أخرى، سواء كانت نابعةً من أساسٍ ديني، كما في المسيحية، أو ذات أساسٍ ماديٍ كما في الماركسية.
في الحقيقة، إن رفض بوبر للتاريخانية مَثّل ترسيخاً لموقفه الحادّ من الماركسية التي تتبنَّى حتميةً تاريخيةً قائمة على التنبؤ بقيام الشيوعية وسقوط الرأسمالية كنتيجةٍ للصراع الطبقي.
ورغم اعترافه بوجود نزعة إنسانية وأخلاقية عند ماركس، فإنه رأى أنها نزعة شوَّهتها "شياطين التاريخانية"، لأن أسس الماركسية، بحسب رأيه، تحتوي "أخلاقاً ضمنية في حكمها على مؤسسات المجتمع"(9).
نفى بوبر الصفة العلمية عن الماركسية، لأنها تعتمد على النبوءة التاريخية غير القابلة للتفنيد، وبالتالي غير العلمية وفق نظريته الإبستيمولوجية. ويُحاجج في هذا الصدد بأن نبوءات ماركس، زيادة على عدم تحقُّقِها، مثل نبوءة قيام الثورة الاشتراكية الأولى في إنكلترا، فإن ادعاء الماركسية القدرة على التنبؤ التاريخي من خلال الكشف عن القوانين التي يسير التطور التاريخي وفقاً لها، هو ضرب من الحتمية يقود إلى الشمولية، فالسقوط الحتمي للرأسمالية كنتيجة للصراع الطبقي يؤدي إلى هيمنة طبقة على باقي الطبقات، من خلال استحواذها على الدولة التي تتحوَّل إلى جهاز بيدها تُوظِّفه لترسيخ حكم شمولي قمعي ومجتمعٍ مغلق، وهو ما يتنافى كُلِّياً مع نزعته الليبرالية التي تظهر جَلِيًّا من خلال اعتماده مفهومي "المجتمع المفتوح" و"المجتمع المغلق".
واقتبس بوبر المصطلحين من الفيلسوف الفرنسي هنري برغسون (1859-1941م)، لكنه طوَّرهما ليصبحا من أسس فلسفته التي أضحت تنظيراً للقيم والمفاهيم الليبرالية الغربية المعروفة اليوم، من ديمقراطية، وحريات فردية وتداولٍ سلمي للسلطة... فـ"المجتمع المفتوح" عند بوبر هو مجتمع يتمتَّع أفراده بحرية النقد واقتراح الحلول لمشاكله، وتتغيَّر فيه سياسات الحكومة بعد ممارسة النقد لكل القرارات المتخذة.
العقلانية النقدية عند بوبر هي أساس قيم الحرية والروح الديمقراطية التي تقود إلى بناء الدولة الديمقراطية.
ويعطي بوبر في معرض محاججته لأهمية وجود مناخ ثقافي محفّز لحرية الجدل والنقد في صعود الأمم، مثالاً عن الازدهار الثقافي في مدينة أثينا في القرن الخامس قبل الميلاد، الذي ما كان ليحدث لولا خلق أسواق للكتب وللعمل الثقافي، الذي قاد في النهاية إلى الديمقراطية الأثينية (10).
في المحصلة، وفيما نحن في ذكرى ميلاده، يمكن القول إن بوبر تمكن من خلال آرائه في فلسفة العلوم وفي مناهج التاريخ الانتقال من حقل نظرية المعرفة (الإبستيمولوجيا) إلى حقل السياسة والاجتماع، ليصبح فعلياً من أهم مُنظِّري الديمقراطية الليبرالية في القرن العشرين، وفلسفته في بعدها الإبستيمولوجي كما السياسي، وإن كانت متماسكةً في بنائها، إلا أنها تتضمَّن نقاطاً تستحق النقد والتفنيد، وقد أثارت فعلاً، ولا تزال، الجدل النقدي حولها.
الهوامش:
(1) محمد عابد الجابري، مدخل إلى فلسفة العلوم العقلانية المعاصرة وتطور الفكر العلمي، مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت 2002، ص 76.
(2) المصدر نفسه، ابتداءً من ص 343.
(3) كارل بوبر، منطق الكشف العلمي، ترجمة ماهر عبد القادر محمد علي، دار النهضة العربية، بيروت، ص 76.
(4) Popper KARL, Conjectures et réfutations, La Croissances du savoir scientifique, Paris, Payot, trad. M.I. et M.B. de Launay, 1985, pp 64-65.
(5) كارل بوبر، بحثاً عن عالم أفضل، ترجمة أحمد مستجير، الهيئة المصرية العامة للكتاب، القاهرة، 1999، ص 248.
(6) تُرجم إلى العربية بعنوانين مختلفين هما: "بؤس الأيديولوجيا" و"عقم المذهب التاريخي".
(7) Jacques G.Ruelland, De l’épistémologie à la politique, la philosophie de l’histoire de Karl R.Popper, Presses universitaires de France, 1991, La conception poppérienne de l’historicisme : page 29 à 38.
(8) يعرف بوبر التاريخانية بأنها "طريقة في معالجة العلوم الاجتماعية تفترض أن التنبؤ التاريخي غايتها الرئيسة، كما تفترض الوصول إلى هذه الغاية بالكشف عن "القوانين" أو "الأنماط" أو "الإيقاعات"، التي يسير التطور التاريخي وفقاً لها". كتاب "بؤس الأيديولوجيا"، ترجمة عبد الحميد صبرة، دار الساقي، بيروت، 1992، ص 13.
(9) Popper (Karl Popper), La Société ouverte et ses ennemis, trad. de l’anglais par Jacqueline Bernard et Philippe Monod, Paris : Seuil, 1979, tome II, ch. XXII, p. 133.
(10)Popper (Karl R.), « Observations sur la théorie et la pratique de l’Etat démocratique », in La Leçon de ce siècle: entretien avec Giancarlo Bosetti, Paris 1996, p 97.