عنجر.. المدينة الأموية الوحيدة بين آثار لبنان
تشكل الموقع اللبناني الوحيد الذي يعود تاريخه إلى العصر الأموي.. تعالوا نتعرف إلى مدينة عنجر وآثارها.
تقع مدينة عنجر في وسط شرقي البقاع اللبناني، على مقربة من طريق المصنع، المعبر الشرقي إلى العاصمة السورية دمشق، ويجمع المدينتين انتماء عميق للحقبة الأموية.
تمتد عنجر في سهل البقاع الخصيب على مساحة 20 كيلو متراً مربعاً تقريباً، وللمدينة أهميّة مميّزة، حالياً، عبر آثارها الواسعة قرب منطقة سكنية حديثة، وتاريخياً، لما تشكّله من عقدة رئيسة تلتقي عندها الطرق التي كانت تصل مناطق سوريا الشمالية بشمال فلسطين، وتلك التي كانت تصل الساحل غرباً، بغوطة دمشق.
كذلك، فقد كان للمدينة دور تجاري مهم بحكم موقعها الجغرافي الحيوي على طرق قديمة للقوافل والمسافرين والتجّار، ما أتاح للمدينة الدور الهام في تجارة الحرير حيث كانت معامل بيروت وصور تتسلّم الحرير الخام المستورد من الصين فتصبغه باللون الأرجواني الذي كان يشهد إقبالاً منقطع النظير، ثم ترسله إلى سوق عنجر لبيعه إلى التجّار والمسافرين بأسعار مرتفعة.
باستثناء مسجد بعلبك الأثري تشكّل عنجر الموقع اللبناني الوحيد الذي يعود تاريخ إنشائه إلى العصر الأموي.
ازدهرت المدينة قديماً بسبب قيامها على مقربة من عين مياه غزيرة متفجّرة عند سفوح جبال لبنان الشرقية، بالقرب من مدينة تاريخية عرفت ب"جرّا"، فأطلق على تلك العين إسم "عين جرّا"، ومنها استمدت المدينة إسمها.
أما "وجرّا" فمدينة أسّسها العرب الأيطوريون في ذلك الموقع في أيام حكم خلفاء الإسكندر المقدوني.
وتبدو "عنجر" كأنها منشأة عابرة، لم تعش أكثر من بضع عشرات من السنين في بدايات القرن الثامن للميلاد، لذلك، فهي تختلف عما سواها من المواقع والمدن الأثرية الأخرى في لبنان، مثل صور وصيدا أو بيروت وجبيل أو طرابلس وبعلبك التي شهدت تسلسلاً تاريخياً متواصلاً منذ نشوئها حتى اليوم، حيث تعاقبت عليها الحقب والثقافات المتعدّدة.
وتشكّل عنجر الموقع اللبناني الوحيد الذي يعود تاريخ إنشائه إلى العصر الأموي، باستثناء مسجد بعلبك الأثري الكبير الذي بني في الفترة عينها.
تاريخ عنجر
في ظلّ السياسة التي انتهجها خلفاء بني أميّة، أمر الخليفة الوليد بن عبد الملك (705-715 م) بإنشاء مدينة عنجر المحصّنة، مستعيناً بمهندسين وحرفيين وصنّاع بيزنطيين وسوريين يحملون إرث المنطقة وخبراتها وتجاربها وتقاليدها الهندسية والعمرانية، فاعتمدوا الحجارة من المقالع المحلية، وزاوجوا عملية البناء بأعمدة وقواعد وتيجان وتعتيبات من بقايا الأبنية الرومانية والبيزنطية التي عثروا عليها في الجوار.
دمّرت عنجر سنة 744 م في الحرب بين الخليفة مروان الثاني، ومنازعه إبراهيم بن الوليد في معركة دارت رحاها على مقربة منها، وراحت البلدة تتداعى وتصبح خرائب مهملة، واستمرّت على هذه الحال حتى سنة 1943 عندما بدأت المديرية العامة للآثار اللبنانية أعمال استكشافها.
أثمرت الاستكشافات ظهور معالم مدينة رومانية كانت تسمّى "كالسيس"، وفي حينه بدأت عملية ترميم هذا المعبد، وإعادة بعض الجدران والأعمدة إلى أماكنها، وإبراز التيجان المزخرفة أعلى الأعمدة وأسفلها. وعثر أيضاً على العديد من المسكوكات، إضافةً إلى نقود ظهرت عليها صور للعديد من الأمراء والملوك وتماثيل كثيرة لرؤوس نساء ورجال.
بنيت المدينة وفقاً لنظام تخطيط المدن الرومانية البيزنطية الذي يتمثل بوجود شارعين رئيسين يتقاطعان في وسط المدينة، ويقسّمانها الى أربعة أجزاء، تحفّ بالشارعين سلاسل طويلة من الغرف المقنطرة والدكاكين والمخازن يبلغ عددها الإجمالي 600 غرفة تشكّل سوقاً مزدهرة. وفي منطقة تقاطع الشارعين وعلى مقربة من القصر الكبير، تنتصب 4 أعمدة ترتفع فوق مستوى القصر، وفي أعلاها ما يشبه برج المراقبة.
أثمرت الاستكشافات ظهور معالم مدينة رومانية كانت تسمّى "كالسيس".
تتميّز المدينة بمعالم كثيرة، منها الظاهر الذي كشفته الحفريات والاستكشافات، ومنها ما لا يزال مخفيّاَ. وقد اتخذت عنجر شكلَ مستطيلٍ يحوطه سور طوله 370 متراً وعرضه 310 أمتار، وقد دعمت الأسوار من الجهة الخارجية بــ 36 برجاً نصف دائري، كما دعمت زواياها بأربعة أبراج دائرية وتبلغ سماكة هذه الأسوار نحو مترين فيما يربو ارتفاعها على 7 أمتار.
وفيها مسجد متواضع المقاييس نسبياً إذ يبلغ عمقه نحو 10 أمتار، واتّساعه 20 متراً، ومحرابه يتوسّط جداره القبلي المطلّ على القصر، ويتألّف من قاعة صلاة وصحن لا سقف عليه، يحتوي بئراً تؤمّن الماء لحوض الوضوء. ولصحن المسجد بابان أحدهما يفضي إلى الشارع الرئيسي الممتد من الشرق إلى الغرب، وآخر يطلّ على السوق الواقع عند تقاطع الشارعين.
وفيها قصران، الكبير منهما يتألّف من 4 أبنية أقيمت حول فناء داخلي واحد ويحيط بها جدار مشترك يشكّل لها حرماً. ويفضي هذا الفناء إلى قاعتيّ استقبال تتألّفان من 3 أسواق متوازية ينتهي سوقها الرئيسي بحنية، فيما يفضي من جانبيه الآخرين إلى الغرف الخاصة وإلى الغرف الواقعة في الطابق العلوي.
ويشكّل "المعبر المتصالب" التقاء الطريقين ما يعرف في تاريخ العمارة بــ "البوابة الرباعية" التي استخدمت في إنشائها عناصر بنائية قديمة تمّ استخراجها من إحدى المنشآت الرومانية.
وعلى مقربة من بوابة المدينة الشمالية حمّام يعتمد في تصميمه على النمط التقليدي الشائع في الحمّامات الرومانية والبيزنطية، والذي وصلنا عبر الحمّامات العربية والتركية وهي تتألّف من غرفة انتظار أو استراحة، تعلوها قبّة مرفوعة على 4 دعائم، تليها غرف الاستحمام الفاترة، فالحارة.