عن جبور الدويهي وقد حلّق بعيداً مع الحمام
قبل أيام، رحل أحد أبرز الروائيين اللبنانيين. إنه جبور الدويهي الذي أفصح أنه لم يعد صالحاً سوى للكتابة. تعالوا نتعرف إلى بعض من مسيرته.
"لن يعرفوا بأنني لوّحت بجناحي في أول وآخر إقلاع صباحي. حلّقت مع الحمام بعيداً نحو السماء الزرقاء، حيث اختفيت أنا والرف في الأفق البعيد". هكذا ختم جبور الدويهي (1949 - 2021) آخر عمل روائي له بعنوان "سم في الهواء" (دار الساقي).
استراح قلم جبور الدويهي، وأصبح ذاك النسيم المنعش في هواء الرواية العربية. إنه كــ"أمير الغيوم"، بحسب تشبيه بودلير للشاعر في قصيدته الشهيرة "القطرس"، الطائر البحري المحلق عالياً وبعيداً في السماء. هكذا هو جبور الدويهي. حلق عالياً في سماء الرواية.
في كل مرة أقرأ فيها عملاً من أعمال الدويهي، وآخرها "سمٌ في الهواء"، أجدني أثمّن نعمة أن تكون لمجموعة بشرية ما راوٍ متألق يحفظ بشاعرية ذاكرة ناسها، ويذهب بها إلى الكونية، حيث عري المصير البشري في كل زمان ومكان.
الدويهي الذي بدأ مشواره الأدبي في العام 1990 بمجموعة قصصية هي "الموت بين الأهل نعاس"، نعس بينهم مساء الجمعة في 23 تموز/يوليو الجاري في اهدن أحبها. ساعتها، دخل الدويهي "عتمة خياله ورحل"، كما يقول الشاعر اللبناني طلال حيدر. مع سرب الحمام، رحل الراوي المستعير ضمير المتكلم من الشخصية الرئيسية في "سمٌ في الهواء"، منضماً إلى شخصية إليا الكفوري في "مطر حزيران"، وشخصية نظام في "شريد المنازل"، وإسماعيل في "حي الأميركان"، وفريد في "طبع في بيروت"، وزكريا في "ملك الهند".
شخصيات روايات الدويهي كانت تعني لكل واحد منا، وتشبكه بخيط أتقن "روائي الحياة اللبنانية" حياكته، فينجرف القارئ معه كزورق ورقي فوق تيار مائي شفاف ونضر. الأسرار في روايات جبّور الدويهي كثيرة، فقبل الروائي كان المثقف.
"لم أعد صالحاً سوى للكتابة"
إذا ما اعتبرنا أن المثقف، وفق مفهوم جان بول سارتر، هو الإنسان المتنوّر الذي قد يكون كاتباً، فيلسوفاً، عالماً، أستاذاً... المسلّح بمعرفته، وعلمه أو كفاءاته، وذات التوجّه الكوني في الدفاع عن قضايا محقّة بنظره، فإن هذا التصنيف منطبق على جبّور بالنسبة إلى عارفيه.
وإذا كان المثقّف هو الجامع للذكاء الشديد والثقافة العالية، والفهم الأخلاقي للحياة العامة، فكل هذه الصفات أيضاً ميزت جبّور الدويهي. صادق المثقفين والفنّانين وأساتذة الجامعة من مختلف المناطق والطوائف، وكان وثيق الصلة بكل الفئات الاجتماعية المحيطة به ويحلو له الإصغاء إلى كل من يلتقيه.
من رحم المثقف النموذجي والإنساني، ولد جبّور الدويهي الروائي بعد مروره بزمن "القراءة المكثّفة"، كما تذكرنا بذلك بدايات الراوي في "سم في الهواء"، ثم زمن الجامعة تعلماً وتعليماً، وقبلها أحلام التغيير في لبنان في ستينيات القرن الماضي، ثم الحرب الأهلية وما بعدها، حيث سقوط الحلم ببلد ديمقراطي. أمام كل هذه الانتكاسات، وجد الدويهي أنه لم يعد يصلح سوى لأمر واحد قائلاً: "لم أعد صالحاً سوى للكتابة".
لذة السرد
أيام نشاط المسرح في زغرتا وترجمة نصوص الشاعر جورج شحادة المسرحية "مهاجر بريسبان" و"حكاية فاسكو" وانضمامي الى فرقة "الديوان"، تعرفت إلى جبور الدويهي عن قرب. حينها، نصحني، أنا المتخرجة حديثاً من كلية إدارة الأعمال، بدراسة الأدب الفرنسي في الجامعة اللبنانية. أثناء دراستي بين يديه، مسّني عشق لعلم الرواية؛ هذا العلم الذي أتقنه الدويهي معتبراً أن "الروائي يكتب عن الأشياء كما هي: لا أفكار، لا رسائل، لا شيء على الروائي أن يوصله. للروائي لذة السرد، سرد التفاصيل. وعلى القارئ توظيف كل تفصيل في فهمه للرواية".
لذة السرد تلك نجدها في معظم الأعمال الروائية الخالدة، كما في "مئة عام من العزلة" لماركيز و"مدام بوفاري" لفلوبير و"بحثاً عن الوقت الضائع" لبروست، لكن الدويهي لم يدخل عالم الرواية من اطلاعه على الأدب العالمي فحسب، بل من تشبعه بقصص بيئته المحلية وقصص أهلها وناسها، وهو ما أكده في أحد مقابلاته: "أنا جايي عالأدب من القصص المحلية. أنا مشبع بهذه القصص القائمة على الــ "فلاش باك". الرجوع إلى الوراء في السرد".
العربية بنكهة فرنسية
تلك القصص المحلية التي شكلت مادة الدويهي الروائية، كتبها صاحب "شريد المنازل" بالعربية، لغته الأم، علماً أنه أستاذ للأدب الفرنسي في الجامعة اللبنانية.
غالباً ما سُئِل الدويهي عن سبب اختياره اللغة العربية في الكتابة الروائية، رغم حيازته كل مقومات الكتابة بالفرنسية، فكان يجيب: "أنا مزدوج اللغة. أكتب باللغتين، لكن مع الوقت تبيَن لي أنني لا أستطيع التعبير بما يكفي بالفرنسية. فكيف لي أن أجد كلمات بالفرنسية تروي ذكرياتي بالاستحمام صغيراً حين كانت تضعني أمي في "اللكن" وتسكب على رأسي الماء "بالكاسة". قد أقول إني أكتب باللغة العربية، لكن بنكهة فرنسية".
تلك النهكة الفرنسية قد تكون صقلت أسلوب الدويهي، وحفزت رغبته في الابتعاد الكلي عن الكلام المنمق، فهو لا يسعى إلى القول الجميل بصوره البيانية، رغم تصريحه مرة برغبته في إفراح القارئ، مشبهاً هذا الفرح بفرحته ودهشته صغيراً لدى رؤية لهب "كومة" عشبة الدمدوم اليابس التي يحرقها الصغار ليلة "عيد الصليب".
الصورة لا الفكرة
أحبَّ صاحب "مطر حزيران" إفراح القارئ مثل فرحه بنار "عيد الصليب"، ولهب شرارات نارها المنثورة في الفضاء. إنها الصورة لا الفكرة التي تبدأ بها كل روايات الدويهي، وهو ما قال عنه ذات مرة: "دافعي للكتابة صورة، وليس فكرة. مثلاً، في رواية "ملك الهند"، الصورة كانت: يلبس طقماً أبيض، وفي رأسه طلق ناري. ثم اخترعت مصيراً للصورة، ونسجت حوله الرواية".
تأتي صور جبور من واقع نماذج اجتماعية يدخلها إلى عالم الخيال، ويلقّحها بذكريات منسية من زمن آخر. تلك القصص المحلية التي تشبّع بها وعرف كيف يصوغها برشاقة شاعرية، تحمل القارئ على التساؤل عن واقعه الحالي، موظفاً تفاصيلها وفق تجربته الشخصية.
هذا الواقع الذي أراد الدويهي الابتعاد عنه والذهاب منه إلى الخيال الروائي قائلاً: "أنا أظهر الواقع ولا أصنعه، فالتخيل الروائي يتمثل في هذا التظهير". ويذكر الكاتب الصحافي محسن يمين أنه دعاه أثناء توقيعه لأول رواياته "اعتدال الخريف" في العام 1995 ليتجه إلى الخرافة، لأنها أجدى من الواقع والتاريخ.
في الختام، تبقى للروائي جبور دويهي شخصيات يقول عنها: "أجرجر الشخصيات معي". وفي اليوم الأخير، طار معها، مع رفّ الحمام، ملوحاً بجناحيه.