سوريا - حصاد الثقافة 2021: إبداع رغم الحرب
على الرغم من الحرب، تثبت الثقافة في سوريا قدرتها على الفعل.. كيف أبدع السوريون ثقافياً خلال العام 2021؟
تثبت الثقافة في سوريا قدرتها على الفعل، رغم ما يقارب 11 عاماً من عمر الحرب السورية. إذ لا تتكئ على مجدِها الماضي، بقدر ما تسعى للحضور في الزمن الراهن، بإبداعات راسخة لها قيمتها المشهود لها، سواء على صعيد الأفراد أو المؤسسات.
ولعل أبرز ميزة لما حققته الثقافة السورية في العام 2021، هو تركها بصمات واضحة تعدَّت المحلية نحو الساحة العربية وحتى العالمية، بحيث لا تُذكر سوريا إلا ويقترن اسمها بإنجاز ثقافي يليق بها، ولا تلبث أن تنطفئ جذوة شمعة ثقافية، إلا وتشعّ محلها شموع.
والجميل هو الاستمرار في منهجة العمل ضمن المؤسسات الثقافية، كي لا يبقى عفو الخاطر، وأكبر دليل على ذلك هو ما تقوم به "الأمانة السورية للتنمية" في إدراج عناصر سورية ضمن لوائح منظمة "اليونيسكو" للتراث الثقافي اللا مادي. فما إن تم إدراج خيال الظل منذ عامين تقريباً، حتى تبعه عنصر الوردة الشامية العام الماضي، ومؤخراً أوفت الأمانة بوعدها للراحل صباح فخري، بأن جعلت عام رحيله محطةً في تاريخ القدود الحلبية وهويتها السورية عالمياً. إذ تمكنت "الأمانة السورية للتنمية" بالتعاون مع وزارة الثقافة، بعد سنوات من العمل والبحث والتحضير، من تسجيل القدود الحلبية كجزء من التراث الإنساني العالمي.
القدود وغيرها على لوائح اليونيسكو
ولا يتوقف الموضوع عند ذلك. فكما قالت الدكتورة لبانة مشوح وزيرة الثقافة السورية في تصريح خاص بـــ "الميادين الثقافية": "إلى جانب تسجيل القدود الحلبية ضمن لوائح اليونيسكو للتراث الإنساني، فإنه يتم العمل على تحضير ملفات ترشيح تتضمن عناصر جديدة، والبدء بمشروع توثيق وتسجيل وحصر عناصر التراث اللامادي في محافظة طرطوس، وحي ساروجة الدمشقي أيضاً، وتحديث القائمة المعتمدة والمتضمنة مئة عنصر.
وأضافت: "بالتوازي مع ذلك عملنا وفق خطة استراتيجية محددة البرامج والأهداف، ومن أهم برامجها الإطارية: حماية التراث الثقافي المادي وصونه، ضمن مشاريع أهمها توثيق مقتنيات المتاحف، وتوثيق الأبنية التاريخية والمواقع الأثرية... مع وضع خريطة رقمية لها، وتأهيل المتاحف المتضررة في الحرب، وترميم وتأهيل عدد من البيوت التاريخية في حلب وحماه وحمص، وعدد من المواقع الأثرية، وأهمها مشروع ترميم قوس النصر في تدمر وتأهيل متحف تدمر التاريخي، والعمل على رفع مدينة دمشق القديمة وقلعة الحصن وصلاح الدين من لائحة التراث العالمي المهدد بالخطر، فضلاً عن الانتهاء من تأهيل عدد من المسارات التاريخية وأهمها مسار قلعة دمشق. والعمل على إحداث متحف الفن السوري الحديث".
حواضن ثقافية
وضمن مشروع بناء الإنسان وتعزيز الهوية الوطنية بمختلف روافدها ومكوناتها، وترسيخ قيم الانتماء الوطني والتماسك الاجتماعي، أوضحت مشوح أن وزارة الثقافة قامت بإطلاق الحاضنة الموسيقية لخمس فرق شبابية من الموسيقيين الأكاديميين، وإقامة مهرجان لمسرح الأطفال، وورشات عمل للتدريب على الكتابة للأطفال، إلى جانب مهرجان حدائق الفن حيث كانت تقدم كل خميس عروضاً مسرحية في الحدائق في كافة المحافظات.
وهناك مسابقات لكتاب السيناريو الشباب، والكتابة القصة، والرواية، والشعر، والمسرحية وقصص الأطفال... مع الاستمرار بنشر الكتب والدوريات في شتى حقول المعرفة، ومواصلة العمل في دورات محو الأمية، والتعلم المتكامل للمتسربين من المدارس بفعل الحرب، كما عمّت المهرجانات المسرحية والأدبية والحفلات الموسيقية العربية والكلاسيكية كل سوريا. وأطلقت المبادرات بالتعاون مع مؤسسات المجتمع الاهلي، إضافة الى إقامة مهرجانات للتراث اللامادي في كل المحافظات السورية.
معهد عالي للسينما
وقالت مشوح: "من أهم ما قامت به الوزارة لعام 2021 هو استصدار قانون إحداث المعهد "العالي للفنون السينمائية" وافتتاحه واستقبال الدفعة الأولى من الطلاب فيه، وإلى جانب تألق "دار الأسد للثقافة والفنون" بعروض موسيقية مميزة، إلا أن الوزارة كسرت الحصار الثقافي واستضافت على "مسرح الأوبرا" عدداً من أفضل فرق الفنون الشعبية الروسية في العالم أتت من موسكو ومن سيبيريا، فضلاً عن فرق أخرى قدمت عروضاً مميزة في "قصر العظم" و"خان أسعد باشا".
كما احتفلت وزارة الثقافة بالذكرى الــ 63 لتأسيسها بإطلاق "أيام الثقافة السورية" التي عمّت أرجاء البلاد وكانت الفعاليات تحت شعار "الثقافة أصالة وتجدد".
وشاركت الوزارة أيضاً ضمن الجناح السوري في معرض إكسبو 2020 بعرض "أبجدية أوغاريت" التي شكلت نقلة نوعية في تاريخ البشرية، إضافة إلى عدد من الأعمال التشكيلية المميزة، واحتفلت الوزارة أيضاً بــ "أيام الفن التشكيلي" التي تخللتها معارض نوعية وملتقيات ومحاضرات وورشات عمل في كل سوريا، وجديد هذا العام ولأول مرة كان معرض الكاريكاتير ومعرض البوستر لطلاب كلية الفنون الجميلة في "جامعة دمشق"، وكل ذلك ليس إلا غيضاً من فيض.
"اتحاد الكتاب العرب" ينظِّف مستودعاته
وإن كان عمل وزارة الثقافة يسعى لكسر نمطيته السابقة، ووضع مشاريع وخطط تُنعش إنجازاته، فإن "اتحاد الكتاب العرب" بات يعمل أيضاً بذهنية جديدة ولعل أهم النقاط التي أنجزها الاتحاد في عام 2021، بحسب رئيسه الدكتور محمد الحوراني في تصريحه لــ "الميادين الثقافية"، هو انتقاله من العمل ما بين الجدران وفي القاعات، إلى العمل الشعبي والانتقال إلى الأرياف، سواء على مستوى معارض الكتاب أو إقامة بعض الفعاليات في المدن والأرياف النائية.
ويوضح الحوراني: "اتحاد الكتاب العرب كان وما زال يملك مستودعاً ضخماً للكتب، لكن بمعظمها أكلها العفن، فلم ينجح أحد على الإطلاق لأكثر من 20 عاماً بتوزيع هذا الكم الهائل من الكتب، وبعضها ما زالت مكدّسة كما تم استلامها من المطبعة، لذلك قام الاتحاد بإصدار قرار بأن يوزع الكتاب للطلاب تحديداً بسعر 200 ليرة، وهو سعر شبه مجاني، وأقام معارضاً في مختلف الجامعات السورية في كل المحافظات تقريباً من القنيطرة لدرعا للحسكة لطرطوس واللاذقية وحلب، أي ما يزيد عن 20 معرضاً خلال سنة، وكان هناك حضوراً لافتاً للكتاب عند هؤلاء الطلاب، لدرجة أن مبيعات الاتحاد خلال العام 2021 بلغت 250 ألف نسخة، أي بسعر 50 مليون ليرة. بينما ما باعه الاتحاد خلال 15 عاماً كان 17 مليون ليرة سورية، وهذا يدل على أنه ما يزال هناك قارئ، لكن في مواجهة الضغوطات الاقتصادية التي يعاني منها المواطن تراجع اهتمامه باقتناء الكتاب".
مكتبات ريفية
يضيف الحوراني: "اشتغلنا أيضاً على ضرورة خروج الاتحاد من الجدران والقاعات المغلقة وأن يذهب إلى الأرياف، وهذا ما حصل سواء أرياف المحافظات النائية أو القريبة، واشتغلنا على إعادة إقامة مكتبات ريفية تكون بمثابة نقاط ثقافية يمكن أن يتناقش الجميع فيها وبكل شيء، من دون فرض أي موضوع أو محاضرة أقرب إلى المحاضرة الأكاديمية التي ملّها الناس، وإنما هناك نقاش بالأفكار بين هؤلاء، بما في ذلك المواضيع السياسية بعيداً عن تصنيفات الموالاة والمعارضة، طالما هناك اتفاق على أن الوطن يجمعنا، وهذا الاهتمام لاقى أصداءً إيجابية للغاية".
فريق شبابي نهضوي
ومن الأمور الأخرى التي عمل عليها "اتحاد الكتاب العرب"، بحسب الحوراني، تكريم بعض الشخصيات التي لا علاقة لها بالاتحاد الكتاب، فخلال فترة الحرب كان هناك بعض الشخصيات الاجتماعية أو الثقافية أو التي لها حضورها ضمن المجال التربوي والتعليمي، لكنها ساهمت بشكل أو بآخر بالحفاظ على الشباب، لذا تم تكريمهم في أكثر من منطقة وعلى صعيد المحافظات جميعها.
وأضاف رئيس "اتحاد الكتاب العرب" أنه "يتم الاشتغال حالياً على تأسيس فريق شبابي نهضوي، سيكون بعيداً عن التعصب في أي شيء إلا للحفاظ على وطنه، ونحن نعلم جميعاً أنه خلال الفترة الأخيرة، كان هناك الفريق الديني الشبابي، ولا بد أمام هكذا فريق أن يكون هناك حضوراً للثقافة، فهي التي تعصم الناس وتحافظ عليهم أكثر من الأديان جميعها، من دون أن يقلل ذلك من أهمية الدين واحترامه، لكن يجب علينا جميعاً الاشتغال على الاهتمام الثقافي أولاً، لذا بدأنا بالتأسيس للفريق النهضوي الشبابي، وكان له حضور قبل الإعلان عنه في بعض المحافظات، إذ اخترنا يوماً واحداً في شهر أيلول/سبتمبر ليكون يوماً للشباب الثقافي وكان الحضور جيداً، والموضوعات التي طرحت جيدة، وبدأنا السير باتجاه أن يكون له حضوره القوي المدعوم من قبل أعلى سلطات في الدولة وبعيداً عن أي تحزبات ضيقة".
تحصين الناشئة
يؤمن حوراني بأن الاهتمام بالمنشورات المتعلقة بالأطفال والشباب، وتحصين الناشئة ثقافياً ربما يكسبنا المستقبل، لذا يولي الاتحاد عناية خاصة بتلك المنشورات. كما تمت إعادة النظر بطباعة كتب الأطفال بشكل أساسي، فالطريقة التي كانت تطبع بها أقل ما يقال عنها أنها لا تليق بأطفالنا.
ويقول: "نشتغل على نوعية الكتب التي يطبعها الاتحاد، وأعدنا النظر بأعداد الكتب التي تطبع، فربما يكون هناك كتاب ليس على سوية عالية رغم موافقة لجنة القراءة عليه، لذا لا نطبع منه 500 نسخة، وإنما فقط 100 نسخة لصاحبه. وقمنا بإيقاف بعض الكتب التي كان موافقاً عليها، وأوقفنا عضوية الشرف التي كانت تمنح لأشخاص لا علاقة لهم بموضوع الكتابة والثقافة، وإنما لأسباب شخصية، وتم تشكيل لجنة للبحث في عضوية الشرف، وهناك ما يزيد عن الثلاثين شخصاً ممن منحوا تلك العضوية سيتم إعادة النظر في عضويتهم، وغالباً سيتم إلغاء معظمها.
وتم التواصل مع بعض الأشخاص الذين لهم حضورهم الأدبي والمعرفي لديهم نتاج ثقافي من أجل أن نقوم نحن بمبادرة تنسيبهم إلى الاتحاد، كما أقمنا علاقات مع بعض دور النشر الخاصة، ليكون هناك نوع من التشاركية، بمعنى أن يقوم الاتحاد باختيار الكتب والموضوعات ويدفع المكافأة لصاحبها، بينما تقوم دار النشر بالطباعة وإعطاء نسخ لصاحب الكتاب، أي نحاول الاشتغال على صيغ مختلفة عما كان عليه الحال سابقاً".
جوائز ومنافسة
وفي اتجاه آخر، بعيداً عن المؤسسات الرسمية، هناك العديد من الأسماء السورية استطاعت أن تثبت نفسها عربياً.
فها هو الروائي نبيل سليمان يحصل على "جائزة العويس الثقافية" في دورتها الــ 17 في مواجهة 1847 مرشحاً، وسومر شحادة ينال "جائزة نجيب محفوظ" في دورتها الثالثة عن ثاني رواياته "هجران" أمام 130 متنافساً، بعد أن حصلت روايته الأولى "حقول الذرة" على "جائزة الطيب صالح" منذ عامين.
ورغم أن الموت غيَّب الأديب والصحفي السوري وليد معماري مؤخراً، إلا أن الساحة الأدبية شهدت ولادة أول رواية للصحفي يعرب العيسى بعنوان "المئذنة البيضاء" وترافقت بشهادات نقدية إيجابية.
وعلى صعيد النشر فإن الدور السورية ما زالت ترفد المكتبة العربية بمئات العناوين المهمة تأليفاً ونقداً وترجمةً، ولتبقى الاشتغالات الإبداعية على صعيد المسرح والسينما والتشكيل، بالوتيرة نفسها في محاولات إثبات الذات وترسيخ الخصوصية، وكأن قدر الثقافة في سوريا أن تبقى في موقع الدفاع عن نفسها، وعن هويتها، فهي مهددة على الدوام في أزمان الحرب والسلم على السواء.