سودانيون يستعيدون المكتبات.. صناديق الكتب بدلاً من صناديق الذخائر!
سودانيون يجمعون آلاف الكتب لإرسالها إلى مناطق عانت الحروب والتهميش، وذلك ضمن استراتيجية تقوم على استخدام صناديق الكتب بدلاً من صناديق الذخيرة.. تعالوا نتعرف إلى هذه المبادرات وأصحابها.
جمَّع كتاب وروائيون في السودان آلاف الكتب تمهيداً لإرسالها إلى مناطق بعيدة من المركز، وغالبها عانى من ويلات الحروب والتهميش. إنها عملية إستراتيجية تقوم على استبدال صناديق الذخيرة بصناديق الكتب.
وأطلق عدد من الكتاب والروائيين مبادرات لإقامة مكتبات أو تعزيز تلك الموجودة في مناطق عانت من الحروب في ولايات دارفور وجنوب كردفان، أو في مناطق أثقلها التهميش كما هي الحال في ولايات شرق السودان التي تعاني تفشي القبلية والجهل والبطالة، وقبلها تعمّد النظام السابق إشاعة ثقافة عدم التمدرس وسط الصغار، وإغلاق المكتبات ودور الثقافة.
ولعلَّ أشهر مبادرتين في هذا السياق أطلقهما - كلٌ على حدة - الروائية إستيلا قايتانو لدعم إقامة مكتبات في مدن نيرتتي، الضعين، ونيالا في إقليم دارفور. في وقتٍ ينشط فيه أيمن هاشم مع آخرين لإقامة مكتبة عامة في مدينة هيا التابعة لولاية البحر الأحمر الساحلية.
وتكتسب جهود قايتانو قيمةً إضافية، لكونها صادرة عن روائية وقاصة تنتمي إلى "دولة" جنوب السودان، ولكن ما تزال تحمل بذرة السودان الموحد بين أضلاعها، شأن كثيرين، يرون في عملية الانفصال التي تمت في تموز/يوليو 2011 بأنها محض فعل سياسي، عاجز عن تفريق شعب بلدٍ واحدٍ وزّعه الساسة بين بلدين.
وتكتب قايتانو القصة القصيرة، والرواية الطويلة، وتلقت جوائز وإشادات عديدة على منتوجها الأدبي، لا سيما روايتها (أرواح إدو) التي ينتظر أن تجري ترجمتها للغة الإنكليزية.
وعليه تأتي تحركات قايتانو في مبادرتها الموسومة "أصنع فرقاً بكتاب"، لتؤكد دورها في صناعة المشهد الثقافي السوداني شمالاً وجنوباً.
من مقر إقامتها في العاصمة الخرطوم، وفي حديث مع الميادين الثقافية، تقول قايتانو التي تدور كثير من حكاياتها حول أزمات الحرب والنزوح إنها في مبادرتها ذات السمة الشعبية، معنية بتشجيع الناس على القراءة، وإشاعة المعرفة والوعي، بحسبانهما كسلاح ماضٍ لإفشاء السلام الاجتماعي، وإنهاء مسببات الحرب، وذلك علاوة على إعادة تلك البقاع إلى دائرة "المدنية" والعمل الثقافي بعد عقودٍ من العسكرة والحروب التي ألقت بظلالها على كامل المشهد الدارفوري.
وتضيف بأنها استطاعت جمع ما يزيد عن 10 آلاف كتاب، تعتزم إرسالها إلى ولايات دارفور ضمن قافلة ثقافية لتدعيم وإقامة المكتبات العامة، ولكنها تشكو حالياً من قصور كبير في مسألة التمويل.
ويقع على عاتق قايتانو إرسال مئات الطرود والصناديق المعبأة بالعلم والمعرفة إلى الإقليم البعيد جداً من المركز، وهو أمر يكلف كثيراً من المال في حال النقل الجوي، ويحتاج كذلك إلى كثير من المال، وغير قليل من الخبرة والدُربة في حال كان اختيار النقل عبر البر وسكك الحديد، حيث تبرز معضلة توصيل الكتب سليمة وبمنأى عن التلف.
وبالاتجاه شرقاً، أطلق القاص وصاحب المساهمات في الدوريات والمواقع الثقافية، أيمن هاشم وعدد من رفاقه، مبادرة "مكتبة هيا الثقافية"، لإنشاء مكتبة في المدينة.
وتأتي المبادرة في وقت تتنامى فيه مشكلة العصبيات في شرق السودان، حيث يختلط حابل القبلي بنابل السياسة، وهو ما يزيد العبء على المثقف الواعي الذي بات عليه التصدي لعدة مشكلات في آنٍ، بما فيها غرس بذور المعالجات الثقافية والمجتمعية في أرض الإقليم، لكبح السيناريوهات السوداء التي تشمل نشوب حرب شاملة، أو تحول دعاوي الانفصال من أمر مستهجن حالياً، إلى واقع معاش.
ومن أبرز نجاحات هاشم ورفاقه في هذا الصدد، أن مبادرتهم تحظى بمباركة كيانات أهلية عدة، أسوة بـ(نظارة البجا) وهي أحد أشهر الكيانات شرقيِّ البلاد.
ومن ضمن المشاهد اللافتة للنظر كذلك، وتبعث على الاطمئنان، أنَّ المبادرة ينشط بداخلها شباب من مكونات أهلية شديدة التباين، وبينها ما صنع الحداد، حدْ أن تورطت – مؤخراً - في نزاعات مسلحة، أودت بحياة العشرات في مدينتي بورتسودان وكسلا.
وفي دعواته لصالح الحياة والجمال، حثَّ هاشم السودانيين على التبرع للمكتبة عبر موقع التواصل الاجتماعي "فيسبوك"، فكتب: "المكتبة أن تشاهد طفلك يكبر"، وهي عبارة على قصرها تجعل من المكتبة نقيضاً مباشراً للحرب.
وحين تواصلنا معه في الميادين الثقافية للتعريف بالمبادرة قال إن: "المكتبة أن ترى الفوارق تتلاشى بالفعل الثقافي، وأن يتم القضاء على ثالوث الصراعات القبلية والجهل والمرض، وأن نضمن انصهار الناس وتوحدهم حول قضايا الإقليم والبلاد".
ويؤكد هاشم الذي جمع ورفاقه عدداً مقدراً من الكتب يأمل في نقلها إلى هيا، ولاحقاً إلى محالٍ أخرى، أن رهانهم يقوم على مستويات عدة، أحدها طويل المدى ويتمثل في تعميم الفكرة في كامل الإقليم، وإلحاق مكتبة هيا بمركز ثقافي يحتوي على قاعة لاستضافة الندوات والورش، بجانب العمل على إقامة أنشطة قادرة على وأد الفتن عبر نشر ثقافة السلام والتسامح.
وعن كيف قابل المجتمع هذه المبادرات، تشيد قايتانو وهاشم بمشاركة المجتمع ونشاطه في دعم المبادرتين، سواء بتجهيز المقار والمكتبات، أو بالتبرع بالكتب، أو حتى بالتطوع لصالح جمع وتبويب وفرز المُستلم منها.
وللتدليل على الأثر الذي تركاه، يقولان بتلقيهما عدة دعوات من محبين للقراءة في عدة مدن وقرى سودانية –في غالبيتها نائية ومهمشة- لمساعدتهم في تأسيس المكتبات العامة.
عند هذه النقطة يقول الناقد الزبير منصور لـ الميادين الثقافية إنّ مبادرتي "أصنع فرقاً بكتاب"، و"مكتبة هيا الثقافية"، على أهميتهما؛ تعكسان ضعف الدور الحكومي ووزارة الثقافة بالمركز والولايات في دعم التغيير السياسي في البلاد بآخر مجتمعي، كما وتعكسان تعطش السودانيين – خاصة في مناطق النزاع - إلى التسلح بالمعرفة بدلاً من معرفة أنواع السلاح.