فايز جريج: من الحبّات المفقودة للمدرسة الانطباعية اللبنانية
فايز جريج (1912) من الأسماء التي أفلتت من الانضمام إلــى "المدرسة الانطباعية اللبنانية" أواسط النصف الأول من القرن العشرين. ظلّ مغموراً طوال فترة عمله الفنية الطويلة، لكنه بتفاعله مع أركان تلك المدرسة، خصوصاً مع الفنان مصطفى فروخ، وباتباعه لأسلوبها المتراوح بين الكلاسيكية، والانطباعية الرومنطيقية في مسيرته الفنية التي استمرت أكثر من 70 سنة، يمكن تصنيفه إبن هذه المدرسة، حيث أبدع على منوالها مئات اللوحات التشكيلية، إضافة إلى القصائد الشعرية المنظومة بروحيّة ذلك العصر.
لم يشأ جريج أن يصدر كتاباً عن أشعاره التي بقي جزء كبير منها مغموراً، كما لم يرغب بإقامة معرض تشكيلي لأعماله الفنية من رسمٍ ونحتٍ، وكان كلما طُلِبَ منه شيء منها، يصرّح بأن الظهور ليس من اهتماماته، فهو مكتفٍ بممارسة فنه، شعراً ورسماً، للمتعة، والتعبير عن ذاته.
كان جريج كثير المطالعة، ففي بلدته بينو العكارية، وفي عصره، كانت التربية والتعليم يتصاعدان، وفي قريته مدرسة روسية، نهل من ثقافتها في طفولته، ونحا باتجاه الفن الذي مارسه في المدرسة، رسوماً ووجوه معلميه وأترابه، وصوَراً افتراضية لعنترة بن شداد، والزير سالم، وفي موسم الصوم الذي يسبق أعياد الفصح، رسم مغناة أنشدها فتيان البلدة عن أليعازر وموته وقيامته، بعشرين صورة متخيّلة منه على شريط من ورق مقوّى. فكانت القصة تخرج من يديه مثل الفيلم، صوَراً متعاقبة تسرد أحداثها، وكان يتقاضى عن كل "فيلم" منها بيضة واحدة، لينتهي الموسم قبيل العيد بعشرين بيضة أو أكثر قليلاً.
في الثالثة عشرة رشّحه أحد المدرّسين من البعثة البروتستانتية إلى بلدته لدخول الصف العاشر في مدرسة البعثة في مدينة طرابلس، بسبب تفوّقه في كل المواد التي درّستها البعثة في بلدته.
استدانت العائلة سبع ليرات ذهبية لمدة عام تمكيناً لإبنها لمتابعة دراسته في مدرسة الأميركان (الإنجيلية لاحقاً وحتى اليوم) في طرابلس، فالتحق بالصف العاشر سنة 1928، وتخرّج حاملاً شهادة "الهاي سكول" سنة 1930. وفي غضون السنوات الثلاث، صقل موهبته الفنية، فكان يرسم الأساتذة والتلاميذ على اللوح في فترات الفرصة، وذاع صيته في المدرسة.
عاد إلى بلدته بعد تخرّجه، وحالت أوضاع العائلة المادية من دون إتمام دراسته التي رغبها في الجامعة الأميركية في بيروت، ومارس الرسم بالفحم خصوصاً عند طلب من أهالي الموتى، وكان يتقاضى لقاء ذلك أجراً مكّنه من جمع بعض المال بينما كان يتّقفى أخبار فناني ذلك العصر أمثال حبيب سرور، وخليل الصليبي عبر مجلة "المكشوف"، ولم يكن يتقن التلاوين.
في هذه الأثناء، بدأ يلمع إسم الفنان مصطفى فروخ، فالتحق جريج بمحترف فروخ، وتوطّدت علاقتهما في أربعة أشهر، هي المدة التي ظل يتدرّب فيها على يد فروخ الذي شجّعه على السفر إلى إيطاليا لمتابعة دراسته الفنية، واعداً بمساعدته عن طريق "أكاديمية الفنون الإيطالية"، وحاول جمع المال بالعمل في بلدته في الرسم، ثم درس في "الكلية الأرثوذكسية" في حمص، لكن اندلاع الحرب العالمية الثانية حال دون سفره.
استمر حلم السفر إلى إيطاليا يُراوده، وعندما هاجر إلى فنزويلا سنة 1948 للعمل، كان يزور معارض إيطاليا وفرنسا، ونيويورك للإطلاع على الفنون العالمية.
رسم جريج ما يُقارب 400 لوحة انتشرت في مختلف المناطق حيث أهدى غالبها لمحبّيه وأصدقائه، وقلّما باع منها لوحة، فانتشرت في مختلف المدن اللبنانية وفي المهاجِر، وبقيت جدران منزله معرضاً لما تبقّى من أعماله.
وربما كان انتشار أعماله في أصقاع الأرض سبباً لعدم تمكّنه من إقامة معرض، حيث بات من المتعذّر جمعها، لكنه لم يكن يأبه لذلك، فالفن بالنسبة له هواية، ولطالما ردّد أنه يعمل "ما يروق لي، وما أراه حلواً، ويجذبني. أفضّل أن أمشي على الطبيعة، وما يوفّره لي الفن، والوقت أعمله.. لم أرغب في امتهان الفن، فآثرت السفر لجمع المال الذي مكّنني من أن أعيش مرتاحاً".
بقي جريج يمارس فنه بعدما عاد من المهجر، وانكفأ في قريته يمارس فيها حياته كما يروق له، في خدمة الناس، والرسم، وبات مرجعية لكل سائل، وطالِب مساعدة، وحلّ مشكلة. وفي فصل الصيف، كان يمضي أكثر أوقاته في كوخ -عرزال بناه على مُرتفع في أرضه.
الشعر
في مطالعاته، انشغف جريج بالشعر القديم الكلاسيكي، والحديث المنظوم، ولم ترقه المدارس الشعرية الحديثة، حتى ما هو تابع منها لشعر التفعيلة.
بدأ جريج بكتابة الشعر عندما كان تلميذاً في طرابلس، وكان ملمّاً بالعربية، وحفظ الكثير من الشعر القديم والمتوسّط والحديث.
تبرز بقوّة في قصائده الطبيعة والبيئة التي عاش في أحضانها معظم سني حياته، ويؤكّد ذلك في تعريفه بنفسه من خلال أبيات نظمها حيث يقول: "شيخٌ أنا صحب الحياة مع الخميلة والعريشة".
تأثّر بالمُتنبي، وأبي فراس الحمداني وسواهما من كبار الناظمين، وفي العصر الحديث، تأثر بجبران خليل جبران وميخائيل نعيمة وأمين الريحاني، وآخرين، لكنه كوّن لنفسه شخصية شاعرية اتّسمت بالمرونة، والانسياب، والإيقاع المُنضبط، واللغة المُتماسكة.
من أكثر القصائد التي تمسّك بها جريج، وظلّت تحتلّ صدارة اهتماماته، قصيدة "سلماي"، وظل كاتماً لقصتها حتى رحيله، ونُشِرَت القصيدة في جريدة "النهار" ثلاثينات القرن الماضي، وفي بعض أبياتها:
سلماي لو كنت ليالي الصيف في الكوخ معي
ومن السكينة غير خفق جوانحي لم تسمعي
وينتقل إلى المقطع الثاني، وفيه:
سلماي لو كنت معي والليل شدٌ وأسرجا
فسمعتِ مزمار المكاري ذائباً متلجلجا
يطفو على وجه السهول مردّداً في مسمعي
صوت المنى حتى يمازجه ضياء المطلع
فيذوب والفجر السني في مدمعي.
ترحب الصفحة الثقافية في الميادين نت بمساهماتكم بنصوص وقصص قصيرة وشعر ونثر، وكذلك المقالات والتحقيقات التي تتناول قضايا ثقافية. بإمكانكم مراسلتنا على: [email protected]