هل نحتاج اليوم إلى التصوّف والفكر الصوفي؟

يحضر في الأدب وكيفما تحركنا على مواقع التواصل ... هل نحن بحاجة فعلاً إلى التصوّف والفكر الصوفي؟

يحضر الفكر الصوفيّ وخطابه، في عالم وعصر اليوم، بقوّةٍ وبأشكالٍ وسياقاتٍ مختلفة ومُتباينة ولافتة، وتبقى تأثيراته في حياة إنسان اليوم أيضاً مختلفة ومُتباينة من فردٍ إلى آخر، ومن مجتمعٍ إلى آخر. ويُجمِع أهل الاختصاص على ضرورة الاستلهام من الفكر الصوفيّ، لأنّ إنسان اليوم أشدّ ما يحتاجه هو القيمة الصوفية في روحها وتجلّياتها. وهذا ما يدفع للتساؤل أو طرق الموضوع بأسئلة ضرورية، أهمّها في الغالب الأعمّ، عما مدى أهمية وموقع التصوّف والفكر الصوفيّ في عصرنا اليوم، وعن مدى حضور الخطاب الصوفيّ في هذا العصر وهل يتماشى معه، أو العكس. وما الذي يمكن أن يُقدّمه أو يُضيفه التصوّف والفكر الصوفيّ لعالم وإنسان اليوم في الجزائر وفي العالم ككل، وهل يمكن القول إنّ الفكر الصوفيّ يُعيد الإنسان إلى جوهره الحقيقي. جوهره الكوني والكينوني الذي أقل ما يُقال عنه، أنّه الجوهر الذي يُضيء ويستشرف أيضاً العالم وإنسانه. الواقع وسياقاته. الحاضر ومستقبله.

حول هذا الموضوع «مدى حاجة عالم اليوم إلى التصوّف والفكر الصوفي»، استطلعت الميادين الثقافية آراء ثلاثة من الباحثين والمُختصّين في الفكر الصوفيّ.

يرى عبد الحميد هيمة، إنّ هذا الواقع الذي طغت فيه المادية أحوج ما يكون للرجوع إلى القِيَم الدينية والروحية، وتحديداً إلى التصوّف. مُضيفاً "اسمعوا إلى وزير الثقافة الفرنسي الأسبق، أندريه مالرو صاحب (كتاب إغواء الغرب) عندما يقول (إنّ القرن الحادي والعشرين إما أن يكون غيبياً روحيا أو لا يكون) في رد على مَن قالوا " إنّ شمس الأديان قد غربت بعد أن قالوا قبل ذلك إنّها أفيون الشعوب".

ثمّ يستدرك مواصلاً: "فعلاً فقد شهدنا في العقود الأخيرة اهتماماً بالتصوّف لم يقتصر على عامة الناس من مختلف الفئات بل تجاوزهم إلى فلاسفة ومفكّرين ودارسين لا يمكن اتهامهم بالسطحية، ممَن لا يتّسع المجال لذِكرهم ، فلقد شدّتهم روحانية التصوّف القوية وبهرت عقولهم وغمرت أرواحهم وقضى كثير منهم أعمارهم منكبين على آثار وأعمال كبار رجال التصوّف وشيوخه. لقد اكتشفوا فيهم ولديهم ما يبحثون عنه ويحتاجون إليه مما يحقّق للإنسان توازنه الّذي كاد يفقده وسعادته التي كاد ييأس من بلوغها".

وذلك هو ما تحتاج إليه كلّ المجتمعات البشرية -حسب نفس المتحدّث دائماً- التي أرهقتها المادية المُجحفة التي لا أخلاق لها ، والتي لم يقتصر طغيان مخاطرها على المجتمعات الغربية بل تجاوزتها إلى كلّ المجتمعات التي سارت على نهجها: اختياراً أو مُكرهة.

مؤكّداً في ذات المُعطى، أنّ الأزمة الأخلاقية والاجتماعية والروحية في عصر العولمة وزوال الحدود، حيث أصبح العالم قرية عمت الجميع ومن دون استثناء بما في ذلك البلدان الإسلامية وما نراه على امتداد الساحة الإسلامية من هَرجٍ ومَرجٍ وفوضى واضطراب بلغ درجة الاقتتال وسفك الدماء وقتل الأبرياء ، ليس إلاّ نتيجة لفراغ روحي واضطراب نفسي وانقطاع للسَند العلمي الذي ظلّ لقرونٍ طويلةٍ صمّام أمانٍ يتمثّل في ورثة الأنبياء من علماء الأمّة الذين كانوا نجوماً في سماء الإسلام يُنيرون الظلام ويُنقذون من الضلال ويدعون إلى الله على بصيرة، إنّهم العلماء الربّانيون أهل الله العارفون الذين جمعوا بين الشريعة التي كانوا فيها مُتبحّرين ومُجتهدين والحقيقة التي كانوا لها سالكين.

وخلص الدكتور هيمة، إلى القول "إنّ الاهتمام بالجانب الروحي كفيلٌ بحل الكثير من المُعضلات التي يتخبّط فيها الإنسان الجزائري المعاصر، مثله مثل الإنسان العربي.. والقِيَم الروحية التي ينبني عليها التصوّف كفيلة بتقديم العلاج لأمراض الإنسان، وفي هذا المجال نشير إلى الشيخ محيي الدين بن عربي الذي نادى بأخوّة الفكر الإنساني، وجعله شرطاً من شروط المحبة الإلهية، التي هي جوهر الفلسفة الصوفيّة.

من جهته، يرى الباحث الأكاديمي عبد الباسط شرقي. أنّ مُصطلح التصوّف عادةً ما يرجع بالمُتلقّي إلى ذلك الجانب الروحي الذي برز في المجتمع الإسلامي، والذي ظهر خلال الفترة المُمتدة بين القرنين الثاني والثالث للهجرة [08-09م]، وهو يشير في أغلب مفاهيمه وتعاريفه إلى معنى البساطة في العيش والتفكير، والإيمان المُطلق بكلّ ما جاء به كبار المتصوّفة من تفاسير وروحانيات مع المبالغة في احترامهم والوصول إلى درجة تقديسهم عبر العصور.

لكن في ما بعد – يضيف المتحدّث ذاته- "نلاحظ أنّ هذا المُصطلح عرف عدّة تعديلات إلى غاية يومنا هذا، ولكنّه لم يخرج عن إطار الروحانية، وإنّما تغيّر أسلوب خطابه، خاصة إذ ما تحدّثنا عن المجتمع المغاربي عامة وعن الجزائر خاصّة، وذلك أنّ المجتمع الجزائري كلما تغيّرت أولوياته واهتماماته واتجاهاته تغيّرت أهمية الخطاب الصوفيّ لديه". وعن مدى حضور الخطاب الصوفيّ وسياقاته. يقول الدكتور شرقي دائماً: "يمكن أن نُلخّص حضور الخطاب الصوفيّ في قولنا: -هو حضور لا يمكن أن يُماثل ما كان عليه في العصور الماضية، لا من ناحية الأسلوب، ولا الاهتمامات، لأنّه شهد نوعاً من التقلّص والضيق في الاستعمال-، وحدث ذلك بعدما تمّ استدراجه أكثر من مرّة إلى دهاليز السياسة، أي حاول الكثير من السياسيين استعماله كأداة للتحكّم بالمجتمع الجزائري، لا كأداة للتواصل والوساطة -كما كان في العهد العثماني-، والذي كان دائم الثقة به سابقاً.

وعليه –يواصل المتحدّث- كان الخطاب الصوفيّ بين الحين والآخر يخرج عن إطاره الرّوحيّ والدينيّ ليتحوّل إلى اتجاه سياسي، وهو الأمر الذّي أدى -حسب قوله- إلى اختلاف الرأي العام حوله، وساهم في ابتكار نقاط اختلاف جديدة بين الساسة والمجتمع، وحتى بين أطياف المجتمع، وهو ما كانت له نتائج سلبية على التصوّف ومؤسّساته -الزوايا-، وتمّ حصر اهتماماته في التعليم وإحياء بعض المناسبات الدينية ليس إلاّ.

شرقي، يرى أنّ للخطاب الصوفيّ مكانه المحوريّ/الرمزيّ والمعنويّ في الفكر الصوفيّ في الجزائر. كما يرى أنّ له دوره الكبير في حياتنا العصرية رغم ما يعترضه من بعض الإرباكات، وهذا ما أشار إليه في ختام تصريحه للميادين الثقافية، قائلاً بنوع من التوكيد: "يجب ألا ننسى أنّ للخطاب الصوفي مكاناً خاصاً في الذاكرة الاجتماعية للجزائريين، وأنّهم بالرغم من الابتعاد عنه، ونقص الثقة به، إلاّ أنّهم لا يزالون يحترمونه، وهو ما يمكن أن يؤثّر في الأوساط الاجتماعية والثقافية وحتى السياسية إذا ما استُعمل بطريقة جيّدة، وابتعد عن مواطن الاختلاف والتشاحُن، ويمكن أن يعود إلى دوره الفعّال في الأمر بالمعروف والنهي عن المُنكر والوعظ، وتدعيم التعليم، ومحاولة غرس تعاليم التديّن في صفوف الناشئة وأجيال المستقبلّ".

أما الباحثة سامية بن عكوش، فترى " أنّ إنسان اليوم، بغضّ النّظر عن عقيدته، يحتاج إلى تصوّر جديد للدّين؛ إذا ما صحّ عزم الإنسانية على نبذ خلافاتها الدينية الكثيرة، للاجتماع حول التحديات المستقبلية المشتركة. وإنّ تغيير التصوّرات عن الدين الإسلاميّ، يسهم بقسط أكبر في تغيير الواقع".

وفي نفس السياق، تضيف ذات المتحدّثة: "تلعب تعاليم الحبّ الصوفيّ دوراً هاماً في رأب الصراعات بين الأديان. وضمن هذا المسعى، يحتاج عالم اليوم إلى شخصية الأمير عبد القادر الجزائري. لأنّها نموذجية، جسّدت معاني الجهاد النّفسيّ، بل وانتصرت له على حساب الجهاد الحربيّ". بن عكوش، تذهب في فكرتها، إلى أنّ التصوّر الجديد يبحث عن القواسم المشتركة التي تجتمع حولها الأديان، بدلاً من الخلافات والعداءات التي تصنعها قضايا كثيرة، كقضية الأديان الناسخة والمنسوخة.

ولن يتحقّق هذا المسعى –حسب قولها- عن طريق الشريعة، بل عن طريق أرباب الحقيقة «التصوّف»، فما ثمّة من دين أعلى من دين آخر. وما ثمّة من دين أعلى سوى دين الحبّ والمحبة.

كما ترى صاحبة كِتاب "تفكيك البلاغة/ وبلاغة التفكيك في نصوص المواقف للنّفريّ"، أنّ الحبّ هو من أعلى درجات الفكر الصوفيّ، وهو الفكر الأعلى والأرقى الذي تحتاجه الإنسانية.

وهنا تواصل في هذا المُعطى: "الحبّ في نظر المتصوّفة، هو أصل شريعة المُحمّديين. فتعاليم محمّد نهر حب عظيم، تصبّ فيه شلالات التعاليم الموسوية والعيسوية -نسبة إلى موسى وعيسى-. وتنتفي ضمن هذا الحبّ مظاهر الاختلاف التي تسبّب الخلاف ثمّ العداء فالاقتتال بين الأديان. لتلتقي الأرواح بالأرواح، التواراة بالإنجيل، القرآن بالألواح، في بحر الحبّ الجامع. وتنطلق هكذا رؤية من مبدأ صوفيّ يقول بشهود الحقّ في كلّ الصوَر، وبالوحدة الرّوحيّة من دون حلول أو اتّحاد، بين كلّ الأديان".

بن عكوش، تتنصر لفكر الأمير عبد القادر وبشدّة، وتعتقد أنّ العالم يحتاجه جداً. وهذا ما جاء في قولها للميادين الثقافية: "يحتاج عالم اليوم إلى تحيين أدب الأمير عبد القادر الذي يفصل في مسألة مشاهدة الحقّ في كلّ اعتقاد. وضمن عقيدة الحبّ التي سار عليها الأمير عبد القادر، يتعامل المسلم مع أخيه الإنسان بالتسامُح والرحمة، صديقاً كان أو عدواً، مقرّاً بحقائقه أم منكراً. وإنّ أحوج ما يحتاجه عالم اليوم إلى عقيدة الحبّ، لأنّها تعترف وترحّب بآخرية الآخر".

وخلُصت إلى ضرورة إحياء أدب الأمير عبد القادر، لأنّ هذا هو السبيل الأفضل لعصرنا اليوم الّذي يحتاج إلى الفكر الصوفيّ بكلّ سياقاته وإحالاته ودلالاته وتجلّياته. كما أكّدت على ضرورة إعادة قراءة كُتب المتصوّفة في جانب التربية النّفسية، خدمة للأغراض الإنسانية كلها. 

 

ترحب الصفحة الثقافية في الميادين نت بمساهماتكم بنصوص وقصص قصيرة وشعر ونثر، وكذلك التحقيقات التي تتناول قضايا ثقافية. بإمكانكم مراسلتنا على: [email protected]