كيف تغيّرت بلادنا خلال 60 سنة؟

كيف تغيّرت بلادنا خلال 60 سنة؟

سوريا، لبنان، الأردن، فلسطين، العراق... وأكثر من ثلاثين دولة أخرى كانت مسرح استكشاف الرحّالتين التشيكسلوفاكيين يرجي هانزلكا (1920-2003) وميروسلاف زيكموند، في رحلتهما الآسيوية بين العامين 1959و1964، قطعا خلالها عشرات آلاف الكيلومترات في سيارتي "تاترا" البراغيّتي الصنع.

اليوم سار على خطاهما مغامران تشيكيان شابان هما المهندسان توماس فانيوريك ولوكاش سوخا، ليعيدا إحياء رحلة مرّت عليها نحو ستة عقود من الزمن، وليهديا نتائجها إلى ميروسلاف زيكموند، ويحتفلوا معاً بذكرى ولادته المئة في مدينته بلزن في شباط/ فبراير الجاري، بعد تنظيمهما معرضاً للصوَر بين الماضي والحاضر، وتوقعيهما كتاباً يتضمّن ملامح الرحلتين، إلى جانب إحياء المدينة نشاطات ثقافية مختلفة يقدّمها الشابان هدية للرحّالة الكبير في يوبيله المئوي.

يحمل مشروع توماس فانيوريك ولوكاش سوخا إسم "زيكموند 100"، فإبن مدينتهما ميروسلاف زيكموند يحتفل في 14 شباط/ فبراير الجاري بمئة عام على ولادته، وهو شخصية شهيرة ليس فقط في تشيكيا وسلوفاكيا، حيث تحوّل إلى أسطورة، بل في الكثير من بلدان العالم التي زارها مستشكفاً إلى جانب صديق عمره يرجي هانزلكا، الذي مات قبل 16 عاماً. ارتبط إسما زيكموند وهانزلكا باكراً، ففي العام 1947 انطلقا معاً في رحلتهما الأولى من براغ نحو الغرب على متن سيارة "تاترا" صغيرة.

وكان الرحالتان قد استعدا لهذه الرحلة طوال سبع سنوات، درسا خلالها أكثر اللغات انتشاراً، قرءا مئات الكتب ودوّنا آلاف الملحوظات على خرائط ورسما المسارات. وهكذا عبرا الحدود نحو ألمانيا، سويسرا، وفرنسا، ثم عبرا البحر نحو إفريقيا، فبدءا من مصر وصولاً إلى المغرب، ثم نزولًا نحو أقصى الجنوب الإفريقي.

انتقلا من إفريقيا إلى القارة الأميركية، ثم أعدا لرحلتهما العربية الآسيوية، وهي رحلتهما الثانية، التي انطلقت في العام 1959 واستمرت نحو خمسة أعوام. وهذه الرحلة تحديداً شغلت المغامرَين الشابيَن فانيوريك وسوخا على خطى هانزلكا وزيكموند، وذلك بعدما حضّرا لمشروعهما سنة كاملة، واستغرقت الرحلة نحو سنة كذلك، لم يستخدما فيها سيّارة بطبيعة الحال، لا يُخفى ما طرأ من تغيّر على واقع الدول وحدودها من جهة ولكون الرحلة كانت لتستغرق على الأقل نحو خمس سنوات أخرى، من جهة أخرى، كما استثنيا بعض البلدان التي لا تشهد استقراراً حالياً.

ظروف العالم باتت مختلفة، أما ظروف ما بعد الحرب العالمية الثانية فكانت ملائمة لهدوء شبه شامل على الكرة الأرضيّة سمح للمستكشفين والمغامرين بالتجوال والترحال بين الدول، ولعل أهم المغامرات العربية التي خيضت آنذاك كانت رحلة حول العالم على دراجة نارية للرحالة الدمشقي الكبير عدنان حسني تللو (1918-2009)، التي تزامنت مع رحلات هانزلكا وزيكموند، فليت من يعيد إحياءها!

رحلة 1959

التقيت بالرحالة توماس مانيوريك، وأحد العاملين في مشروع "زيكموند 100" ياروسلاف بلاها، في السفارة التشيكة في بيروت. كان دافع اللقاء اهتمام السفيرة التشيكيّة في لبنان ميكايلا فرانكوفا بترجمتي فصلًا من كتاب هانزلكا وزيكموند "الهلال المقلوب" (1961)، وهو بعنوان "أناس بيروت الصغار"، ضمّنته في كتاب "من بيروت وعنها" (بيروت: دار المصور العربي، 2018)، فأخبرت توماس بالأمر، ما دفعه إلى المجيء إلى بيروت، حيث حدّثني عن مشروعه وزيارته مع سوخا لبنان خلال العام الماضي وظروف الرحلة الجديدة، وأهداني نسخة من كتاب هانزلكا وزيكموند "ألف ليلة وليلتين" (1976)، وهو استكمال رحلة هانزلكا وزيكموند شرقاً عبر سوريا والأردن والعراق وصولًا إلى ميناء البصرة.

ومن الملفت أن لبنان كان قد حظيَ بدراسة وافية في "الهلال المقلوب"، حيث استقرّ هانزلكا وزيكموند فيه لأشهر، بينما مرّا في الدول الأخرى بسرعة نسبيّة، وذلك لأنّ دفعت أحداث العام 1958 دفعتهما إلى ذلك، فانطلقا في رحلة بريّة طويلة في نيسان/ أبريل 1959 من العاصمة براغ نحو بيروت مروراً ببودابست، بلغراد، سراييفو، سكوبيه، تيرانا، صوفيا، إسطنبول، إزمير، الساحل السوري، واستقرّا في مبنى قانصو الكائن في شارع مدام كوري في رأس بيروت. وقد شاركهما هذه الرحلة رفيقان هما الميكانيكي أولديرجي هالوب والطبيب روبرت وست، واستعانا فيها بسيارتين من نوع "تاترا 805".

في لبنان، كتب الرحالتان عدداً من المقالات التي نشراها في صحف براغ، تناولا فيها ثورة العام 1958: نتائجها وآثارها، الطائفية والتحاصُص، والطبقات الاجتماعية والغنائمية والاستزلام، الحياة السياسيّة، العائلة اللبنانية، الاقتصاد المحلي وعلاقته بدول الخليج العربي، والاستثمارات العربية والأجنبية والتجارة العامة، المهاجرون اللبنانيون، العمارة والفنون، مهرجانات بعلبك الدولية... وقابلا كذلك الزعيم الراحل كمال جنبلاط مقابلة نأى فيها عن السياسة المحليّة.

وقد جُمعت مواد رحلة لبنان من مقالات وصوَر ومشاهدات وشكّلت صلب "الهلال المقلوب". كما صوّر هانزيلكا وزيكموند إثني عشر فيلماً تلفزيونيّاً في لبنان وسوريا (الجمهورية العربية المتحدة)، بثّت عبر التلفزيون الحكومي التشيكوسلوفاكي في العام 1960، وهي من محفوظات الأرشيف الوطني التشيكي اليوم، ومن عناوينها: سليم الكريم، تحية من حلب، تحيّة من الشرق الأوسط، سيّدة النوريّة، البدو الرحّل، فوق خليج القد يس جاورجيوس، في السوق العربية (من مدينة طرابلس)، الحشّاش، أرز لبنان، وغيرها.

على خطى السابقين

"الهدف من رحلتنا إحياء التراث العظيم لهانزلكا وزيكموند، كنا لا نزال طفلين عندما قرأنا كتبهما، نحب ما نقوم به وهو بالفعل تحقيق لحلم مشترك لدينا"، كما قال الشابان توماس ولوكاش. التحضير للرحلة لم يكن سهلاً، استغرق نحو سنة، في البداية عمل الشابان على دراسة المواد الأرشيفيّة لرحلة الأعوام 1959 – 1964، ودرسا آلاف الصوَر الفوتوغرافية المؤرشَفة ورقياً وانتقيا منها ما يمكن أن يشكل مادة للمقارنة بعد تصوير الأماكن عينها، ووضعا أمامهما مهمّة إظهار كيف تغيّر العالم في أكثر من نصف قرن من الزمن.

فزيكموند وهانزلكا كانا قد حلاّ في بعض المدن التي تأثرت بدمار الحرب العالمية الثانية ولم تنهض بعد، إلا أنّها اليوم مختلفة كلياً، أما أماكن أخرى فلم تطرأ عليها أية تغيّرات جذرية. وإظهار التغيّرات عبر مقارنة صوَر من الماضي والحاضر سيكون على عاتق مشاهديها من زوّار معارض متخصّصة للصوَر بأحجام كبيرة تنتشر على ستاندات عرض في حديقة سميتانوفا وسط مدينة بلزن طيلة شهر شباط/ فبراير الجاري، التقطها الشابان من الزاوية عينها التي التقطت في الصوَر قبل نحن ستة عقود.

وهذه الصوَر تعبّر عن مسار الرحلة، من تركيا إلى لبنان، فلسطين، الأردن، باكستان، الهند، نيبال، سيرلنكا، بورما، تايلند، إندونيسيا، اليابان، روسيا، قرغيزستان، وكازخستان. لم تشمل رحلة توماس ولوكاش سوريا والعراق، على الرغم من أن زيكموند وهانزلكا كانا قد أمضيا فترة طويلة نسبياً في هذين البلدين ليوثّقا بالصوَر جملة كبيرة من الملاحظات الإثنوغرافية والإنثروبولوجية ضمّناها في كتابهما "ألف ليلة وليلتين"، رويا فيه بلغة أدبية جميلة عن العادات والأعراف لدى القوميات والشعوب المختلفة، عن البدو والحَضر، والمدن والأرياف، الأعمال والحِرف، العمارة، طريقة التعامل مع الضيوف والغرباء، أحوال الصناعة والتجارة والسياحة وشؤون أهل السياسة في دمشق وعمان وبغداد.

 

ترحب الصفحة الثقافية في الميادين نت بمساهماتكم بنصوص وقصص قصيرة وشعر ونثر، وكذلك التحقيقات التي تتناول قضايا ثقافية. بإمكانكم مراسلتنا على: [email protected]