البُعد الروحي في فكر جلال خوري

بحث جلال خوري عن الذات، عن الأنا، عن الروح، وعن سرّ هذا الجِرم الصغير الذي كان يعتقد أن به انطوى العالم الأكبر.

منذ عامٍ تقريباً غادرنا جلال خوري على نحوٍ مُفاجئ، وهو بكاملِ لياقته الجسدية والنفسية والفكرية، وهذه نعمة في حدّ ذاتها يستحقّها مَن أحبّ الحياة وأحبّته فخصّته بوداعٍ كريمٍ يليق به، وإن كانت هذه النهاية قد أحدثت صدمة مُزلزلة مُنِيَ بها الأهل والزوجة والأصدقاء ومحبو جلال ومسرحه. 

حين غادرنا جلال خوري على هذا النحو كان لا يزال يعمل على تأليف مسرحية لم يكن يظنّ أنه لن يُنهيها، وأنها ستكون آخر مشروع مسرحي له لم يكتمل. هذه المسرحية تتناول موضوعاً لطالما فكّر فيه جلال في الرُبع الأخير من حياته الحافِلة بالعطاء، ولم يُتح له أن يكتبه المسرح من قبل، وهو مسألة التوحيد الدينية التي كانت بلادنا مسرحها ومبعثها مُجسّدة بالأديان السماوية الثلاثة، والتي كانت قد سبقتها محاولات عدّة أبرزها المحاولة التي قام بها رائد التوحيد في مصر الفرعون  أخناتون الذي كان يُعرَف قبل ذلك باسم أمنحوتب الرابع.

أراد جلال خوري من وراء هذا العمل أن يسلَّط الضوء على الكيفية التي قامت عليها دعوة أخناتون التوحيدية والأسباب التي أدَّت إلى فشلها بعد وفاته. لقد أحدث هذا الفرعون المُستنير ثورة دينية مُزلزلة بدعوته إلى عبادة إله واحد هو" أتون" وإبطال عبادة أمون الإله الأبرز بين مجموعة من الآلهة الثانويين. كما أمر بإزالة كل أثر لهم من المعابد وطرد كهنتها، ما أفقد هؤلاء من المكاسب التي كانوا يجنونها من كهانتهم وقطع عليهم أبواب الرزق الواسعة من القرابين والعطايا والتقديمات التي كان يتقرَّب بها الشعب إلى هؤلاء الآلهة ويستولي عليها الكهنة وخدم المعابد.

جلال خوري المسرحي المُتميِّز بإدخاله الفكر الثوري السياسي إلى المسرح اللبناني الناشئ من خلال تأثّره بالكاتِب والمسرحي الألماني بريتولد بريشت، وتعريف الجمهور والمُثقّفين به وبفّنه وأسلوبه الخاص في الكتابة للمسرح وفي فنّ التمثيل الذي يقوم على فَهْم الممثّل لدوره وعدم الاندماج به في آنٍ واحد. كان جلال مُعجباً بثورة أخناتون الدينية إلا أنه نظر إليها بعين الناقِد. فوجد أن السبب الأول لفشل ثورة أخناتون إنما يكمن في الطريقة التي فرض بها مذهبه الجديد. ذلك أن الفرعون اعتمد العنف أسلوباً وحيداً لفرض عبادة الإله الواحد "أتون"، ولم يرسِل الدُعاة لشرح هذا الدين وإقناع الأوساط الشعبية باعتناقه وهي التي كانت تسلس القياد للكهنة. فكان أن أثارت الشعب إلى جانب الكهنة حتى تمكّنوا من إعادة الدين القديم بعد وفاة أخناتون وحيداً وقد تخلّت عنه زوجته نفرتيتي وأعوانه الانتهازيون.

يندرج هذا الاهتمام بالمسألة الدينية في سياق تطوّر فكري جعل جلال خوري يُعيد النظر في بعض المُسلّمات المادية القديمة، ويطرح أسئلة عن الحياة والموت وعن الأبعاد الروحية التي تكتنف حياة الناس منذ القِدَم وما زالت تشغلهم وتسيّر الملايين منهم، على الرغم مما حقّقته الحضارة المُعاصِرة من مُنجزات بعضها أشبه بالمُعجزات.

هذا البحث كان محوره التساؤل عن كُنه هذا الوجود وعن مكانة ودور الإنسان فيه، وعن هذه الحياة المُسمَّاة بالحياة الدنيا، وما قيل ويُقال عن كونها معبراً إلزامياً إلى حياة أخرى تنتقل إليها الروح بعد فناء الجسد. وكان يعاود السؤال القديم: لماذا جئنا وإلى أين نذهب؟ أم ثمة مجيء تنتهي مدّته ولا شيء من بعده؟

ومضى جلال خوري بعيداً في البحث عن الذات، عن الأنا، عن الروح، وعن سرّ هذا الجِرم الصغير الذي كان يعتقد أن به انطوى العالم الأكبر. من أجل ذلك قرأ الكثير من كتب الفلاسفة وعُلماء الطبيعة والحُكماء، وسِيَر الأنبياء والصدّيقين. ولم يتوقّف عند هذا الحد بل اتّصل بعالم التأمّل ومارس اليوغا واتّخذ لنفسه معلماً في هذا الفن الروحاني. جرّب كل ذلك وظلّ السؤال المركزي ماثِلاً: لماذا وإلى أين؟ وما من إجابة قاطِعة. في هذه المرحلة ألّف جلال بعض المسرحيات أبرزها: "هندية، راعية العشق" و "الطريق إلى قانا" و"رحلة مُحتار إلى شرينغار".

على أن كل هذا التجوال الروحي لم يصرف جلال عن واقع هذا العالم المحسوس الملموس الذي كُتِب علينا أن نعيش فيه. ولم يَحِد قَيدَ أنمُلة عن مبادئه وقناعاته السياسية والفكرية، ماركسياً ظلّ، ومُناضلاً أمَمِيّاً، ووطنياً مؤيّداً للمقاومة ضدّ (إسرائيل) كما بقي مُنافِحاً في لبنان وفي المحافل الدولية عن القضية الفلسطينية، ومن أشدّ المُعادين للنزعات العنصرية والطائفية؛ والعقائدية المُتطرّفة، ولا سيما الدينية أو المذهبية، ومؤيّداً لكل مَن قاتَل الحركات التكفيرية. 

هذه تحيّة لك يا جلال خوري وكلمة عنك أحببت أن تكون شهادة لي فيك أيها الرفيق والصديق والمُعلّم في كثيرٍ من نواحي الحياة العملية والفكرية والفنية.

* يُقام حفل تأبيني في الذكرى السنوية الأولى لرحيل جلال خوري في مسرح المدينة في بيروت مساء اليوم الثلاثاء. يتضمّن الحفل إضاءات على مسيرة وأعمال الراحل المسرحية. ويتحدّث فيه: شريف خزندار، روجيه عساف، نضال الأشقر، أنطوان قسطنطين، جاد أرسان. 

كما يقدّم مقاطع مختارة من مسرحياته كل من: رفعت طربيه، منير معاصري، سنا أياس خاتشاريان، بالإضافة إلى عرض فيلم وثائقي لهادي زكاك. 

 

ترحب الصفحة الثقافية في الميادين نت بمساهماتكم بنصوص وقصص قصيرة وشعر ونثر، وكذلك التحقيقات التي تتناول قضايا ثقافية. بإمكانكم مراسلتنا على: [email protected]