الفاتِحة!
بالأمس غادرت الروح المدينة، بل الروح التي تلفُّ الوطن وتمرُّ على المجاهدين بكل قداسة الأمومة وعرفان الجهاد، ثمانون عاماً كافياتٍ لأبناء شهداء وأحفاد شهداء، تسرعُ فيها أمّ عماد إلى أبنائها المُتزيّنين بالسلاح، تُصلِحُ هندامهم العسكري، ترشُّ على أكتافهم عطرَ الرجال وتشدُّ وثاقَ قلوبهم التي تتفتّق كلما نظر راحلٌ إلى عيني والديه.
من بعيدٍ لوَّح الراحلون لمن انتظروا على الضفاف، ومن النعيم كان هتافٌ سرمدي: الجنَّة تنقصُها أمّ عماد. رتَّبت في سرّةٍ من نورٍ ثمانين عاماً من جهادٍ ونضال وتضحيات، وانتظرت بقلبٍ جُلُهُ في السماء يحتضن شهداء ثلاثة، إخوةٌ زرعوا سنين شبابهم في بساتين الوطن الأبدي فكان الربيع يحمل عطرهم من شجرة زيتونٍ إلى شجرة ليمون إلى شجرة تينٍ إلى وردة الدحنون الجنوبي، بالأمس غادرت الروح المدينة، بل الروح التي تلفُّ الوطن وتمرُّ على المجاهدين بكل قداسة الأمومة وعرفان الجهاد، ثمانون عاماً كافياتٍ لأبناء شهداء وأحفاد شهداء، تسرعُ فيها أمّ عماد إلى أبنائها المُتزيّنين بالسلاح تُصلِحُ هندامهم العسكري ترشُّ على أكتافهم عطرَ الرجال وتشدُّ وثاقَ قلوبهم الذي يتفتّق كلما نظر راحلٌ إلى عيني والديه.
الحاجة آمنة سلامة مغنية والدة الشهداء الأخوة جهاد (1984) فؤاد (1994) عماد (2008) والحفيد الأعزّ جهاد عماد مغنية (2015)، بلسم القلوب المتوجّعة من وقع الرحيل، تدخل على عوائل الشهداء أينما كانوا في لبنان فيمتزج حزنهم بأنسٍ عظيم وعزّةٍ كبرى كأن كلماتها التي تلقيها في محضرهم تمرُّ كَيَدَيِّ نبيّ يشفي الجراح ويداوي القلوب الملوّعة.
لم تكن أمّ الشهداء الأربعة في موقفها الجهادي تعيش دور الأمِّ فحسب، بل كانت مقاوِمة تجهد ليل نهار في نشر الفكر المقاوِم والتحذير من العدو الإسرائيلي والتذكير بقضية القدس والأقصى، كانت مؤمنة بالمقاومة فاتحةً لعصر عائلة الشهداء من الأب إلى الأخ إلى الولد إلى الحفيد هكذا الذين يؤمنون بقداسة العيش بكرامة ورفض الذلّ لا يتوانون عن بذل الغالي والنفيس، وهل أغلى من دم الأبن؟ فكيف بدم الأبناء؟ هل أغلى أن تسلّم أولادها إلى حضرة الموت فلذة كبدٍ وأخرى في سبيل أن يحيا الشعب والوطن والأمّة بأمنٍ وسلام، أمّ جهاد وعماد هي أمُّ لبنان والوطن، كباقي أمّهات الشهداء الذين قدّموا لأوطانهم أشهى ما يملكون.
يلفُّ المشهَد برحيل أمّ عماد حزنٌ كبير، فهذه العائلة أثبتت أن المقاومة كي تنجح عليها أن تكون مجتمعاً متكاملاً. أفرادها مؤمنون بفكرة التضحية في سبيل العيش الحر. علّمتنا عائلة الشهيد عماد مغنية أنه لا يكفي أن نحمل الفكر المقاوِم دونما العمل والجهاد. لأن العدو في الجهة المقابلة هو كيان متكامل وفكر عدائي موحّد ومؤمن بأحقيّته في سلب الأراضي وإنشاء دولته على أرض الغير.
هذا المنزل الذي رَفد السيلَ المقاوِمَ بشخصية الشهيد عماد مغنية، عقل المقاومة ومهندس حروبها، كان يتطلعُ إلى الصراع بعقلية المسؤول وروحيّة المُقاتل. كان الشهيد عماد يقول "إن الذي يقاتل فينا هو الروح " . هذه العقلية الكبرى كان لشخصية الحاجة آمنة فيها الدور الكبير، فكانت الأمّ التي تواكب أولادها في مسيرهم الجهادي بكل عاطفة ورضا، زارعة لديهم الاطمئنان والعزيمة في ما يقومون به ويعملون من أجله.
لم يوقفها استشهاد ولد لتقول يا رب كفى، ولم تكتفِ بالأبناء. لقد آمنت بالعطاء اللا محدود، آمنت أن قضية انتصار الظلم على الظالم حتمية لا بدّ فيها للأمّهات من أن تلقي بأولادهن في ميادين الحروب كي تتحقق. كان الكثير من مهندسي الثورات وكُتَاب المقاومات بعيدين بأجسادهم أو أجساد أبنائهم عن ساحات الحروب وكركعة السلاح ورائحة البارود ومآسي الحرب، أما أمُّ عماد فكانت تحكي المقاومة وأبناؤها قابضون على السلاح، يحاكون الزناد، منتظرين عدوّهم في كل ساحة وميدان.
العزاء اليوم بأمّ الشهداء ثقيلٌ على الأمّهات اللواتي استلْهَمْنَ من أمّ عماد صبرهّن وقوّتهن وعزمهّن على المضيّ في هذا السبيل. العزاء اليوم ثقيل على المجاهدين. تعرجُ الحاجة أمّ عماد والأقصى غصّة في قلبها ككل الذين رحلوا وفي نفوسهم أمنية أن يروا القدس الشريف وقد تحرّر. لكنها تعرج مطمئنة للإرث الذي تركه الشهيد عماد وعشرات الآلاف من المقاومين، هنيئة بالمقاومة التي يحسب لها العدو الحسابات، وتؤرق الدول الكبرى ومخابراتها وجيوشها.
في صراع الاحتلال ومقاومته كانت أمّ عماد حالة قوّة وإيمان لوطنها وشعبها والمقاومة التي عملت من أجلها. إيمان بأن الشعوب التي تمتلك أمّهات كأمّ عماد لا يُكتبُ لها إلا النصر، في مقابل الشعوب الخائفة التي تبعد أبناءها عن ساحات القتال علّ النصر يتحقق بأبناء الغير.
المقاومة ستكتب أم عماد، وسيكتبها التاريخ وستضرب بها الشعوب مثلاً للتحفيز للمضي في سبيل ما يؤمنون فيه. رحلت أم عماد وقبلها كل أبنائها الشهداء، فمن ذا الذي سيحمل النعش؟ ستحمله كل الأيادي، كل من قال أنا ابن مقاوَمة، كلهم سيحملون نعش أجمل الأمهات.
أم عماد كتبت قصيدتها عن عشق الوطن بحبر الدم القاني وفلذات الأكباد وسيخلدها الوطن أيقونة الصبر ومشكاة الانتصار. هي التي كانت الأولى في عهد العطاء وكانت الأم الفاتحة لقرابين الانتصار، فإلى روحها الفاتحة.
ترحب الصفحة الثقافية في الميادين نت بمساهماتكم بنصوص وقصص قصيرة وشعر ونثر، وكذلك التحقيقات التي تتناول قضايا ثقافية. بإمكانكم مراسلتنا على: [email protected]