فلسفة الشوارع

للأماكن فلسفة خاصة تأخذ لونها واسمها مما نمرّ به. عند أيّة خيبة، الشوارع المؤدّية إلى بيتك ثقيلة، كأن الأحجار فوق ظهرك وليست عليها. عندما يتملكك الفرح، تبتسم الطرقات لك، تصبح جميلة فجأة. أسماؤها كأسمائنا نحن البشر، تعلّمنا بلون خاص حتى نختلف، أكثر بكثير مما نحن مختلفين، كالندبة التي تدلّك على الشيء وإن تاه. ترتبط تسمية الشوارع والمناطق بالمكان، بتاريخه، والأحداث التي مرّت عليه، وهي ليست حكراً على الجماعات التي سطّرت لبلادها انتصاراً ما. فبعض البلدان تسمّي الشوارع بإسم محتلّيها، كأن على سطوة حضورهم البقاء حتى ولو رحلوا!

بعض البلدان تسمّي الشوارع بإسم محتلّيها، كأن على سطوة حضورهم البقاء حتى ولو رحلوا

بطبيعة الحياة البشرية المليئة بالرغبات والمشاعر، القبول والرفض، النجاح والفشل، الإصرار والاستسلام... تحضر مع الأمكنة فلسفة خاصة تأخذ لونها مما نمرّ به. عند أيّة خيبة، الشوارع المؤدّية إلى بيتك ثقيلة، كأن الأحجار فوق ظهرك وليست عليها. عندما يتملكك الفرح، تبتسم الشوارع لك، تصبح جميلة فجأة، خفيفة الظلّ، كأنها تُطوى لك على عَجَل. أسماؤها كأسمائنا نحن البشر، تعلّمنا بلون خاص حتى نختلف، أكثر بكثير مما نحن مختلفين، كالندبة التي تدلّك على الشيء وإن تاه. من هنا مرّ فلان. فلان له فضل هنا، واكتشاف هناك. قد تفترق أنت ومحبوب لك عند مفترق طريق لا يشبه إلا التقاطع الذي أحدثه الفراق في قلبك، فتحفظ المكان، تطلق عليه إسماً لا يفارق ذاكرتك، كشارع الكآبة، أو الفراق. وعند اللقاء، إسمه شارع الحب، السعادة، شارع الأشياء الجميلة.

عندما تخرج الأمور عن إطارنا الشخصي الضيّق، ترتبط تسمية الشوارع والمناطق بالمكان، بطبيعته، بتاريخه، والأحداث التي مرّت عليه. التسميات ليست حكراً على الجماعات التي سطّرت لبلادها انتصاراً أو إنجازاً. فبعض البلدان تسمّي الشوارع بإسم محتلّيها، كأن على سطوة حضورهم البقاء حتى ولو رحلوا. غالباً ما يسكن تاريخ الشعوب في أسمائها، فتحمل الطُرقات إثم ما حدث في المعارك، وتأخذ كنيتها مما صار في الحروب. قد تحمل الشوارع إسم فنان أو كاتب، أو قصة إنسان ناجح كشارع "مونو" في بيروت الذي يُقال إن أهالي المنطقة سمّوه على إسم أهم أستاذ فرنسي كان يدرّس في الجامعة اليسوعية.

الصراعات السياسية حشرت أنفها في تسمية الشوارع أيضاً، كما في كلّ شيء. يُطلق رئيس البلاد أو الأحزاب والتكتّلات إسماً جدلياً فيثيرون به النعرات والجدل. كشارع "فخر الدين باشا" الذي أطلق عليه الرئيس التركي رجب طيب أردوغان هذا الإسم لأن مقرّ سفارة الإمارات في العاصمة التركية يقع فيه. وفخر الدين باشا هو قائد عسكري عثماني، وكان والي المدينة المنوّرة خلال الحرب العالمية الأولى، وكان سبباً في سِجال بين تركيا والإمارات عندما كتب عبد الله بن زايد آل نهيان وزير الخارجية الإماراتي تغريدة تهاجم فخر الدين باشا بأنه "ارتكب جريمة بحق شعب المدينة المنوّرة وسرق أموال ساكنيها".

في مصر، وبعد نجاح حركة الجيش المصري في عام 1952، استخدمت الحركة إسم الشوارع كأحد أسلحتها في حربها على الدول الغربية، وقرّر عبد الناصر إطلاق إسم واحد من أكثر الأسماء معارضة لبريطانيا، وهو رئيس وزراء إيران الأسبق محمّد مصدّق. فأطلق عبد الناصر إسم مصدّق على واحد من أهم شوارع محافظة الجيزة وذلك نكاية في بريطانيا التي كانت أحد أكثر الدول معارضة لحركة الضباط. وكذلك تمّ تغيير إسم شارع "الخليج العربي" إلى شارع "بور سعيد" تخليداً لذكرى مقاومة شعب مدينة بورسعيد ضد العدوان الثلاثي عام 1956. تغيير الإسم كان سببه الخلاف الذي كان بين الرئيس المصري الراحل جمال عبد الناصر وبعض دول الخليج العربي التي كانت تخشى من فكرة "تصدير الثورة".

الأمثال هنا لا تنتهي، بلدان كثيرة غيرّت أسماء شوارعها لأهدافٍ سياسيةٍ أو قومية. في إيران مثلاً، تمّت تسمية أحد شوارع طهران باسم خالد الإسلامبولي قاتِل الرئيس المصري الراحل أنور السادات، على خلفيّة الخلاف الكبير بين مصر السادات والثورة الإيرانية، حيث كان السادات من المعارضين للثورة الإسلامية، وقرّر استقبال محمّد رضا بهلوي شاه إيران الذي قامت الثورة عليه، ولذلك قرّرت إيران إطلاق إسم الإسلامبولي على أحد شوارعها. كذلك أطلقت إيران إسم عدد كبير من المعارضين للتواجد الإسرائيلي بفلسطين والمدافعين عن القضية الفلسطينية، فأطلقت على أحد شوارعها إسم الناشطة الأميركية راشيل كوري، وراشيل ناشطة مُدافِعة عن القضية الفلسطينية، وقُتِلت في الانتفاضة الفلسطينية الثانية.

في لبنان، هناك شارع يُسمّى بـ "زقاق البلاط" ويُقال إن الإسم عثماني الأصل لأن زقاق كلمة عثمانية وتعني الشارع، وحينما قرّرت السلطنة العثمانية تحديث المدينة بدأت عملية تبليط الشوارع، ما أدّى إلى تسمية الشارع بزقاق البلاط، كذلك شارع الحمرا الذي سُمّي بذلك نسبة إلى سلالة بني الأحمر التي سكنت رأس بيروت في عهد المماليك. لم يبق أحد من بني الأحمر، لكنّ الإسم بقي على حاله حتى يومنا.

ما يحدث في بيروت، الضاحية الجنوبية، منطقة الغبيري تحديداً، بعد الجدَل الذي اشتعل عقب تسمية شارع بإسم الشهيد "مصطفى بدر الدين" يدفعنا إلى السؤال عن كُنهِ الأسماء ومعانيها. لماذا تُمنع تسمية شارع بإسم مقاوِم بطل يُعتَبر من أبرز المجاهدين الذين تصدّوا للاجتياح الإسرائيلي عند مداخل خلدة جنوب العاصمة بيروت، وبقي متابعاً لعمله الجهادي إلى أن استشهد في العام 2016؟

الشهيد بدر الدين يعني الكثير، شهادته ليست بحجم شارع أو منطقة، شهادته بحجم بلد، يعرف المؤمنون بخيار المقاومة في لبنان ذلك جيّداً. مَن حملت الشوارع أسماءهم في لبنان لا تفوق شرعيتهم شرعية بدر الدين، وربما لا توازيها، لكنّ الشوارع تحمل همّ مواطنيها، قبل أسمائهم، ولأن الشهيد بدر الدين، ومَن على نهجه، يزرعون الرُعب في نفوس الكثيرين، لأسبابٍ نعرفها، أو لا فائدة من معرفتها، هناك مَن يخاف من تسمية الشارع بإسم شهيد، ميت، لم يعد على وجه الأرض، ليست له قوّة في فعل أي شيء، لكن، على الرغم من كل ذلك إسمه يُخيف، ويُرعِب، فكيف به عندما كان حيّاً؟ ذلك يعني، أن القضية المرتبطة بأسماء أصحابها، لن تموت، ولو على نواصي الشوارع.

 

ترحب الصفحة الثقافية في الميادين نت بمساهماتكم بنصوص وقصص قصيرة وشعر ونثر، وكذلك التحقيقات التي تتناول قضايا ثقافية. بإمكانكم مراسلتنا على: [email protected]