متحف جبران ... "النبي" في محبسته

كان جبران خليل جبران قد اختار دير مار سركيس آملاً أن يكون صومعته، وأن تكون محبسة الدير مدفنه الأخير. وعندما توفى، ابتاعت شقيقته الدير، ودفن في محبسته.

جانب من المعرض الفني للمتحف

"ما زلت حياً مثلك، وواقفاً إلى جانبك"، عبارة تتلألأ أضواء عند مدخل الصالة التي تضمّ ناووس جبران خليل جبران الذي رُكِن في كوّة حفرتها الطبيعة، والمياه المتسقية من سقف محبسة دير مار سركيس في بشري حيث يقع متحفه.

كأن العبارة حقيقة لمَن يجول في المدينة المنزوية في منحدر جبل الأرز شمال لبنان، على ارتفاع يناهز ال1400 متر عن سطح البحر، فهنا لافتة تشير إلى منزل جبران، وثانية ترفع إسم الشارع المُسمّى باسمه، بينما تتحضّر مجموعة من الفنانين المحليين لإقامة معرض فني على الدرج الموصل بين حيّ آل كيروز ومستديرة مار سابا في ساحة المدينة، عبوراً قرب منزل جبران.

كل حركة في المدينة تتمنّى أن يكون إسم جبران فيها، وما تركه من أثر كبير يُغري أهالي مدينته حد الانتماء، فكيف لا وكثيرون ما انفكّوا يزورون بشري لأنها مدينة جبران، ويزورون فيها الآثار التي تركها، خصوصاً ما هو مُتجمّع في متحفه.

العبَق الجبراني يملأ أرجاء المدينة، مثلما تنعكس مناخات المدينة الطبيعية، والثقافية المُفعَمة بالروح الدينية، أدبه، وشعره، وفنه التشكيلي.

في الثانية عشرة من عمره، أي سنة 1895، هاجر جبران إلى الولايات المتحدة، وتردّد إلى وطنه لتعلّم اللغتين العربية والفرنسية في مدرسة الحكمة في بيروت.

سنوات قليلة فقد فيها جبران نصف عائلته، حيث توفيت أمّه وشقيقه وإحدى شقيقتيه مرضاً، لكن المأساة لم تثنِ جبران عن المثابرة، فأقام معرضاً فنياً 1904. مناسبة عوّضت الخسارة بالتعرّف على ماري هاسكل، فحلّت أمّاً، وشقيقة، وصديقة، وحبيبة، ناصرته في كثير من الاهتمامات، ورافقته حتى مماته سنة1931.

حياة جبران مُفعمة بالعطاء الفكري والفني، فقد بلور تجربته الفنية في سفره إلى باريس ليعود ويستقر في نيويورك، ثم يطلق العنان لما زخرت به مخيّلته في الجبل اللبناني، وثقافته العالمية، يرسم ويؤلّف بغزارة.

من محطاته البارزة مراسلاته مع الأديبة اللبنانية مي زيادة صاحبة الصالون الأدبي الذي حمل إسمها في مصر، ثم ظهور مؤلّفه "المجنون" سنة 1918، وتأسيسه 1920 في محترفه لــ "الرابطة القلمية" التي ضمّت أبرز الأدباء والمفكّرين العرب في المهاجر.

في العام 1923 أصدر جبران كتاب "النبي" الشهير، وفي العام 1928 أصدر "يسوع ابن الإنسان"، ويفيد جوزيف جعجع، مدير متحف جبران للصفحة الثقافية في الميادين نت أن "جبران توفى في 10 نيسان/ إبريل عام 1931، ونقل إلى مدينته الأمّ بشري بناء على توصية منه، ووصلها في 22 آب/أغسطس من العام نفسه".

كان جبران قد اختار دير مار سركيس آملاً أن يكون صومعته، وأن تكون محبسة الدير مدفنه الأخير. وعندما توفى، ابتاعت شقيقته الدير، ودفن في محبسته.

"لم يطل الزمن حتى أرسلت ماري هسكل، ومجموعة من الشباب البشراويين، أغراضه الشخصية، ومكتبته الخاصة، و441 من لوحاته الأصلية، ومخطوطات من 550 كتاباً، من محترفه النيويوركي، إلى بشري، فاحتُفِظ بها في مدرسة المدينة برعاية من المطران فيليب شبيعة، وبلدية المدينة"، بحسب جعجع الذي أضاف إن "ما وصل من أعماله يقدَّر بالثلثين، أما الباقي فقد توزّع بطُرق مختلفة منذ زمن جبران، إن في الولايات المتحدة، أم خارجها، ومنها أربعون لوحة اشتراها المتموّل اللبناني كارلوس سليم التي احتفظ بها في متحف أقامه على إسم زوجته "سمية" في المكسيك".

ويذكر جعجع أنه "بدأ مهتمون من بشري بتنضيد أعمال جبران، ومقتنياته، وعرضها في طبقة من مبانٍ حديثة في الشارع الذي يحمل اليوم إسمه، وذلك بين الاعوام 1971 و1975".

في تلك الفترة كانت "لجنة جبران الوطنية" تتكوّن، فخطّطت لاحقاً لإقامة متحف لجبران، وخلال البحث في أوراقه، عثر على توصية منه عبّرت عن رغبته في أن يكون الدير مقرّه الأخير، وتحوّلت وجهة اللجنة نحو الدير الذي جرى توسيعه، وتأهيله ليكون متحفاً لأعماله، وآثاره، ومقتنياته.

 

في تجويف صخري ضخم يقع دير مار سركيس الذي أصبح "متحف جبران". بدايته نصب لجبران، ثم معبر متدرّج طويل يزيد على المائة متر.

ويتكوّن المتحف من ثلاث طبقات و16 غرفة، ويضاف إليها المدخل وغرفة الإدارة، ومنها يلج الزائر إلى غرف متعدّدة، ثلاث منها قدّمتها السفارة اليابانية منذ ثلاث سنوات، على ما أفاد جعجع، سهّلت عرض المزيد من آثار جبران، وأعماله الفنية.

وتتوزّع الغرف العليا على طبقتين. من الغرف واحدة تحتوي مجموعة من مقتنياته، ولوحة لـــ "رودان" بريشة جبران، وفي أخرى نبع ماء مُتفجّر من الصخر، ولوحة تعود للعام 1909 لجبران بين رفاقه الفنانين في محترف أحد الفنانين الصوفيين بيار مرسال برونو، ووثائقيتان لهاسكل، ولجبران في صباه.

وتحتوي الغرف أيضاً على العديد من لوحاته الأصلية، ومخطوطاته، والبعض من مقتنياته الفردية كالساعات اليدوية، وريشة الرسم، ومحفظته الأولى يوم كان ما يزال تلميذاً في مدرسة بشري.

وبين المعروضات، تلفت لوحة لجبران بريشة الحويك، والحويك بريشة فروخ، وخزانتان منفصلتان هما مكتبته، وتضمّان كتبه. يفضي درج ضيّق محفور في الصخر لولبياً، ونزولاً إلى صالة واسعة، تتوسّطها إلى الجهة اليمنى، مغارة تحتوي نعش جبران، هي المحبسة، وفي زاوية من الصالة سريره الذي وُصِف بالقصير تعبيراً عن طول صاحبه، ومكتبه، وبعض أغراضه ومنها المرسم.

أما عند مدخل الصالة فارتفعت عبارة منارة بالكهرباء: "I am alive like you, and I am standing beside you".

في هذه الصالة ينتهي المتحف.

وللتذكير، فإن بعضاً من مؤلّفات جبران الشهيرة: الموسيقى (1905)، عرائس المروج (1906)، الأرواح المتمرّدة (1908)، الأجنحة المتكسّرة (1912)، دمعة وابتسامة (1914)، العواصف (1920)، وهي صدرت قبل وفاته، بينما صدر بعدها: التائه (1932)، وحديقة النبي (1933).

 

ترحب الصفحة الثقافية في الميادين نت بمساهماتكم بنصوص وقصص قصيرة وشعر ونثر، وكذلك التحقيقات التي تتناول قضايا ثقافية. بإمكانكم مراسلتنا على: [email protected]